أن تصبح كومبارسًا في حياتك

665

لمدة تفوق عشرة أعوام، نقلت ملف أغانيَّ معي من هاتف لآخر، وكلما أعجبتني أغنية أضفتها، كل أغنية تحمل عمرًا معينًا أحببتها فيه، بقائمة كبيرة من القناعات التي كنت أقدسها وقتها. سجل موثَّق بذكريات عما كنت أرتديه، ومن كنت أفكر فيه وأنا أسمعها، وكيف كنت أندمج وأحاول أن أغني حتى أجرح صوتي، أقلد ما أرى على التلفاز، أغمض عيني وأمسك فرشاتي وأتأثر وأنهي الكوبليه ورأسي للأسفل ويدي للأعلى في تصفيق حاد للجمهور الجالس في مخيلتي.

 

أشياء كثيرة دهست تلك الفتاة عبر السنوات، بقي منها ما بقي وتغير ما كان يستحيل العيش معه، وبقيت قائمة أغانيَّ رفيقة لي شاهدة على تغير ذوقي ومزاجي، تُذكِّرني من كنت وكيف كنت أفكر في كل سفرية مصيف لي، حيث أجلس بمحاذاة النافذة دائمًا مهما كان الثمن، وأترك القائمة تقفز بشكل عشوائي بين سنوات عمري، والطريق الخالي يجري بجانبي، تتعلق عيني بكل برج حمام أراه، أرتاح في المساحات التي لا آخر لها، وأحلم ببناء منزل صغير وسط الخضار الفسيح، أظل أصممه وأفرش أثاثه حتى أصل.

 

في آخر رحلة نِمت ربما نصف الطريق أو أغلبه، ولم أجلس قرب النافذة، بل قرب سائق عصبي ضرب ظهري في كل مطب مر به، ورغم كل هذا، كانت فكرة ابتعادي مائتي كيلومتر عن تلك البيئة المسممة الضاغطة التي عايشتها تسعة أشهر في العمل، كافية لابتلاع أي منغصات، كنت أشعر بالتحرر كلما سار السائق أسرع، لدرجة أنني تمنيت أن لا نصل أبدًا إلى حيث عليه تخفيف السرعة.

 

تعلمت الكثير عن العلاقة المسممة والمؤذية، وكيف أن أغلب ضحاياها لا يدركون أنهم في علاقة مسيئة حتى تنتهي، كنت أتأثر بشدة، ولكن لم يخطر ببالي يومًا أن المؤذي لا يشترط أن يكون زوجًا أو حبيبًا فقط، وأنني نفسي أتعرض لعلاقة مسيئة، أشك داخلها في قدراتي وأكره عملي وتراودني الكوابيس يوميًا، وأبحث عن حيل للتهرب من المجيء لمكتبي كل يوم، أشعر بثقل على صدري، وفي قلق على مصدر رزقي لا يتوقف ولا يحثني على العمل.

 

ضمن خطتي للترفيه عن نفسي، قصدت مكانًا للسهر، لم أكن أعلم أن بالمكان مطربًا يُحيي الحفل، كان ظهري إلى حيث يقف هو، بلا منصة بلا تصفيق بلا أي تنبيه، بدأ في الغناء، استغرقني الأمر ثلاث أغانٍ تقريبًا حتى ألحظ أن هذه الأغنية لم تكن تُغنَّى بهذا الصوت، فلففت بمعقدي وتابعته، حتى أجدني في مكتبي أعمل مرة أخرى، وعلى الرغم من كل تلك المسافات.

 

عندما كنت أشاهد “ستار ميكر” وأنا طفلة كنت أتساءل دومًا عن مصير من يأخذ أقل نسبة أصوات، هل تبتلعهم كواليس المسرح ويعودون للنسيان مرة أخرى؟ كيف يستكملون أيامهم؟ حتى جلست أمام هذا المطرب، أظنهم يعملون هنا، حيث لا يلتفت إليهم أحد بكرسيه، أو يقطع لسماعهم حديثه.

 

كان هذا المطرب مُصغَّرًا لما صارت إليه حياتي المهنية وشغفي بالصحافة، هو يغني ولكن بلا أي شعور بالكلمات التي يقولها، حفظ كل أغنية عن ظهر قلب، فهو لا يخطئ ولا يخرج عن اللحن، إلى درجة أنه يمسك الميكروفون بيد والهاتف باليد الأخرى، يضحك بشفاهه على الكوميكس التي يقرؤها أثناء غنائه لحبيبة مفقودة في نفس الوقت.

 

الحقيقة أن هذا المطرب يمثل أغلبنا، لم يحلم أحدنا أن يصبح عامل بنزينة، أو موظف خدمة عملاء، لم نحظَ جميعًا بكمية الأصوات الكافية، في أحلام كل منا، كنا نقف على المسرح وحدنا، لا نشبه أحدًا، نلمع في ما نعمل فيه، حتى كبرنا وجلسنا جميعًا في تلك الصالة حيث العشرات وحتى المئات منا، لا يتميز أحدنا عن الآخرين في شيء.

 

فكرت كثيرًا في مشاعر الممثلين الذين كبروا مع فنانين كبار، ولم يصبحوا يومًا بشهرتهم. في من عاشوا وماتوا يأخذون أدوارًا لا اسم لها ولا يتذكرها أحد.

 

يجن جنون كل من حولي عندما أحدثهم عن الاستقالة، وعن الطريق المسدود الذي أمشي فيه بهذه المهنة، عن فقدان حبي لما أفعله وقناعتي بفائدته، فنحن على أرض الواقع يحكمنا المُرتَّب والتأمين الصحي، نكسب مالنا لندفع فواتيرنا، أما الأحلام فتلك رفاهية لا تُحقَّق للكثيرين.

 

أشعر وكأنني غنيت أغنيتي المفضلة مئة مرة متتالية حتى فقدت معناها لي، ولم يسمعني في المرات المئة أحد.

 

بعد عودتي من تلك الرحلة، أضفت العديد من الأغاني إلى ملفي، واحدة منها ستُذكِّرني باستمرار أنني لم أُخلَق لتلك الصالة الكبيرة من المتشابهين، وأن عليَّ البحث عن مسلكي نحو المسرح مرة أخرى.

المقالة السابقةراجل ولا نص ولا تلات أرباع؟
المقالة القادمةسياسة الاستجداع العادل
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا