سلامتها أم حسن

780

أنا إنجي.. ولسه بكلمكم عن ملابسات جوازي، المرة دي أنا أخدت دوا الكحة واتكلفت في الكوفرتة الحمرا، وقعدت ع الكنبة وقررت أحكي عن أول مرة مرض في البيت الجديد.

 

اعتراف:

أنا شخص مبيعرفش يتعامل مع الألم والمرض، مع أول بادرة ألم بجري على رفاق كفاحي الفولتارين والكتافاست والبنادول، بحبهم أكتر ما بحب اللوبيا أم عين سودا دي.

 

نكمل كلام، كنت عايزة أحكيلكم عن أول مرة مرض بعيد عن ماما، اللي كل شوية كانت تدخل الأوضة وتجسّ راسي بخدها عشان تشوف الحرارة نزلت ولا زي ما هي.. أنا اتجوزت، ومش بس كده، أنا كمان اتجوزت في القاهرة على بعد 300 كيلومتر من بيت أهلي، حيث الشوربة والمكرونة المسلوقة والجبنة البيضا والعسل والليمون طول ما أنا عيانة.

 

أول يوم مرض كان عندي هواجس كتير، هو أنا إزاي هعيا؟! يعني هقعد في البيت لوحدي عشان جوزي مينفعش ياخد أجازة مفاجئة، وماما مش هنا عشان تاخد بالها مني، ده كان مسببلي ألم أكتر من ألم المرض، دماغي كانت تقيلة جدًا وجسمي كله بيوجعني والكحة بتزلزلني من على السرير، كنت بفكر إني مينفعش أكون عيانة لأني مسؤولة، لازم آخد بالي من حاجات كتير وأحاول أمشّي أمور أسرة صغيرة مكونة مني ومن شخص هيقعد طول النهار متكدر بسبب إنه سايبني لوحدي وأنا عيانة.

 

كنت بحاول أفكر في كل الأفكار دي وأنا بقاوم إني أروح في النوم، بس ولا اتأثرت، نمت حوالي 20 ساعة متواصلين أول يوم، واكتشفت حاجات كتير.

 

اكتشفت إن كوني موجودة بعيد عن بيت أهلي ده مش وحش أوي، الناس في البعد بتكتشف إنهم يقدروا يتحملوا مسؤولية نفسهم، أنا في البعد المرة دي اكتشفت إني أقدر “أسيب” مسؤولية كل حاجة على كاهل شخص تاني غيري، واكتشفت إن فيه كائن حي على كوكب الأرض أنا بثق فيه ثقة توازي ثقتي في نفسي.

 

جوزي أخد باله مني كويس أوي في الفترة اللي مكنتش قادرة فيها أقوم من السرير، كان بيديني الدوا في ميعاده، وكان بيعملي سندوتشات قبل ما ينزل، وكان بيهتم أوي إنه يخلي شكل السندوتشات حلو في الطبق مع الخيار والخس والطماطم عشان نفسي تتفتح، هو كمان اكتشف في نفسه القدرة على سلق اللحمة وعمل الرز، عملّي رز حلو أوي واللحمة كانت مستوية كويس، وأنا بالتدريج إحساسي إني لازم أفوق عشان أكمّل دوري كمسؤولة عن البيت ده استكان وحسيت إن عادي إني أعيا وألزم السرير كام يوم.

 

 

قبل الجواز بفترة كنت بحضر نفسي للسفر، وكنت هعيش في بلد تانية خالص لوحدي مع ناس مبيتكلموش حتى عربي، معرفش لو كنت اتعرّضت هناك للمرض كان إيه اللي حصل، بس اللي أنا متأكدة منه إن كان هيجيلي إحساس عميق بالوحشة، الوحشة اللي محستهاش وأنا هنا، في بيتي الجديد حتى لو كنت بعيدة عن عيلتي الكبيرة عشان أسرتي الصغيرة أخدت بالها مني كويس.

 

التجربة على بساطتها كانت ثرية جدًا، يعني أسطورة السعادة الأبدية اللي كلنا بنكون متخيلينها عن أول الجواز طلعت مش حقيقية، إنتي/ إنت ممكن أوي تمرض في أول جوازك، وتبقى نايم في وسط جنينة مناديل مش نضيفة، وشعرك منكوش وريحتك دوا كحة، وكل الأصوات اللي بتطلع منك بتشبه أصوات عربية شكمانها مكسور، ولابس هدوم كتير مش لايقة على بعضها، يعني الفراشات والعصافير والفساتين الدانتيلا ومزيكا الفالس والأكل التحفة هتكون حاجات خيالية وبعيدة أوي عن الواقع، وهيفضل الطرف التاني برضو يحبك.

 

هوس السعادة اللي كل الناس بيفضلوا يغذوا خيالنا بيه قبل الجواز، كلهم بيكلمونا عن الروايح الحلوة وجوزك اللي لازم يشوفك أجمل من حورية فرغلي (مين حورية فرغلي؟!) كل يوم، وإننا هنصحى م النوم نبص في وش بعض ونقول صباح الخيييييير بابتسامة واسعة، وإننا لازم نعيش منتهى السعادة قبل ما نقدم ويعدي على جوازنا وقت كتير وكل حاجة تبقى عادية، كل ده ممكن في لحظة يطير مع أول عطسة تهز السرير لدرجة إن الطرف التاني يقوم من النوم مفزوع.

 

 

الحياة الحقيقية فيها حقن مضاد حيوي، ومكالمات للصيدلية في نص الليل عشان دوا الكحة خلص، وفيها مناديل كتير، مناديل كتير أوي، وفيها شوربة ورز وسندوشتات جبنة، وشخص بيسخّر كل قوته عشان يساهم في إن شخص تاني يخف ويقدر يتكلم.

 

التجربة البسيطة أوي دي، خلتني غيرت مفاهيم كانت راسخة في دماغي عن مسؤولياتي بعد الجواز، أنا كنت متخيلة إني “لازم” أخف عشان الدنيا هتتكعبل طول ما أنا عيانة، اكتشفت إني “عايزة” أخف عشان الضغط اللي على جوزي كونه سايبني عيانة في البيت يخلص.

 

التجربة البسيطة دي خلتني أفهم إن ممكن حد فينا يصيبه مرض أطول شوية من دور برد شديد، وعلى قدر الارتباك اللي هيحصل للطرف التاني إلا إنه هيعرف ياخد باله من الطرف المريض وميحسسوش بالوحشة والوحدة وافتقاد الأهل، عشان ببساطة البيت الصغير المكوّن من شخصين بس بقى هو الأهل كلهم.

 

السعادة مش كلها في كمال الحياة، السعادة ممكن تكون مستخبية في دور برد شديد يخليك تحس إنك مقبول أيًا كانت حالتك الجسدية والمعنوية، وإنك مهم جدًا، مش مهم عشان من غيرك الحياة هتقف وبس، إنما كمان مهم عشان لما إنت تكون كويس الحياة كلها هتكون كويسة.

 

وسمعني سلام سلامتها أم حسن.

 

المقالة السابقةحُب الرمان
المقالة القادمةتشوهات جيل
إنجي إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا