تشوهات جيل

421

أنا من جيل يعاني دائمًا من حنين للماضي، رغم أن ماضيه وحاضره مؤلمان.. ومستقبله مجهول بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ! جيل تربى في بيوت ذات أسقف منخفضة ومساحات ضيقة مهما وسعت على غرار آبائنا وأمهاتنا الذين تربوا في بيوت ذات أسقف عالية.. تعطيهم مساحة أكبر للتنفس، وتطل شرفاتهم على حديقة وزرع أخضر ونسيم عليل.. وإن لم يكن فمساحات فارغة هي.

 

أما نحن فنغلق نوافذ شرفتنا التي تخترق خصوصيتنا، نوافذ حجبها الطوب الأحمر الكئيب والبنايات العالية التي حجبت عنا السماء.. أطبقت علينا من كل جانب وأبت إلا أن تزيد اختناقنا وتحد من رؤيتنا وسعة الأفق. جيلنا هو الذي اعتاد على الأكل السريع.. لأن أمهاتنا كانوا بداية لجيل جديد يؤمن بحرية المرأة وإمكانية عملها إن أرادت، ولكن جيلنا يعتبر عمل المرأة ضرورة. وأصبح من النادر أن ترى فتاة تنهي دراستها لتجلس مرتاحة دون قلق من حياة مبهمة لا أثر لهدف واضح فيها.

اختبرنا نحن كل أنواع الطعام التي أثبتت كثير من الدراسات أنها تصيب الإنسان بالاكتئاب، في حين تربت أمي على طعام يحمل رائحة الزبد الفلاحي، واللحم الطازج والخضار الصابح وفواكه لها نكهة تنتظر لتقطف في موسمها. أما نحن ففقدنا حاسة التذوق يوم اختبرنا المجمدات وفواكهة الصوب والكيماويات والمواد الحافظة التي لا تحمل لونًا أو طعمًا أو رائحة.

ورغم أهمية التخصصات هذه الأيام.. فإن فكرة النصف إنسان تقتلني.. من يهتم بالأدب يهمل العلم.. ومن يهتم بالعلم يهمل الأدب، هكذا نشأت ونشأ أبناء جيلي. لم أشأ أبدًا أن تكون هذه حالي، ولكن الذي رسّخ لهذا الأمر هو الجيل الذي سبقنا ولم تظهر في جيلهم كما ظهرت بهذا الشكل الموحش في جيلنا. أصابنا الانفتاح بغزو لأفكارنا، وكبّلتنا عقول لم تضئ بعد.. فحملنا أسلحتنا مبكرًا وخضنا حروبنا الخاصة في سن مبكرة. ثم اتهمنا بالتفاهة والسطحية لأن أفكارنا أضاءت طريق آبائنا المبهم.. ألسنا جيلاً تحمّل الكثير؟!

أنا من نفس الجيل المحبط المكتئب الذي شهد الموت يحيطه من كل جانب، جيل مات فيه الشباب من أجل فكرة وحرية وطن، وزُفّت الفتيات بكفن أبيض، نتقابل في الجنازات أكثر من الأفراح.. وفي الميادين أكثر من الحدائق.. وتربطنا ذكريات لا نحكيها أمام آبائنا.. لأنهم لن يعوا ما اختبرنا أبدًا في حياتنا وتحديدًا ثورتنا للحرية.. وثورتنا الفكرية.

 

أذكر في إحدى مناورات التحرير بين الكر والفر سقطت على الأرض وانهال أحدهم يضربني على ظهري حتى صرخت فيه “ماذا أخبروكم عنا”؟ فتوقف لحظة ليترك لي مساحة للهروب. عدت للبيت في أطول رحلة مصحوبة بالبكاء الشديد، ليس من شدة الألم ولكن من الصدمة. عدت لأحتضن أمي في هدوء وابتسامة صامتة وكدمات مستترة تحت ملابسي. لم تكن لتتفهم أبدًا كيف نحتمل ونعاود الكرّة من جديد، لم تكن لتفهم أبدًا ما الدافع!

وللأسف الشديد أنا من نفس هذا الجيل الذي أصبحت علاقاته الاجتماعية معقدة للغاية، تبدأ بضغطة زر على أيقونة قبول وتنتهي أيضًا بضغطة زر على أيقونة حظر (بلوك). جيل نسي مكالمات التليفون الأرضي الطويلة الودودة.. واستبدلها بمكالمات المحمول السريعة العملية، جيل افتقد تمييز الأصوات والإحساس بنبراتها.. ربما تعلق على أحد في صفحات التواصل الاجتماعي والدموع تملأ عينيك بتعليق مليء بالضحك والسخرية والوجوه المبتسمة الصفراء الصغيرة التي لا حياة بها.. فأي زيف نعيش؟! ومن أي واقع نهرب؟!

جيلنا هو الذي شهد أقبح أنواع الثرثرة على شاشات التلفاز.. ووقف  مندهشًا أمام عجائب وغرائب الجعجعة في برامج التوك شو.. ولم يكن أمامه سوى أن يجعل منها وسيلة للترفيه عن نفسه بمزيد من السخرية ولسان حاله يقول “أليس فيكم رجل رشيد؟!”. أبناء جيلي.. لقد تحملنا الكثير.. وفقدنا الكثير.. وتشوهت نفوسنا لأبعد الحدود، وبالتأكيد لم تعد الطريقة التي تربينا بها توائم الأجيال القادمة.. فهل هناك طريقة أخرى لاستقبال الجيل القادم.. أم فقط نرحب بجيل جديد مليء بالتشوهات؟

هل علينا التوقف عن البحث عن ذاتنا.. والاهتمام بمتطلبات الأجيال القادمة؟ لم تكن أبدًا ثورتنا من أجل حريتنا.. ولكنها كانت من أجل حياة أفضل لأبنائنا، أننطلق من نفس هذا المنظور ونغض البصر عن أنفسنا لأن تشوهاتنا لا يمكن إصلاحها.. فربما يمكن تفاديها مع أبنائنا؟ هل علينا التأقلم معها باعتبارها ضريبة للتقدم الفكري والحضاري؟

فيما أعتقد.. أن الحل لهذه التشوهات التي أصابت جيلنا يجب أن يبدأ من فرض توفير الهدوء والاقتراب من الجمال، والبعد كل البعد عن الصخب والقبح، لم يعد الهدوء والجمال اللذان ينبغي أن يحيطا بنا رفاهية أو تطلعات كبيرة، بل هما أمران أساسيان كي تبدأ هذه التشوهات في الانقراض، فلا يمكننا أن نتأمل أو نفكر أو نعيد ترويح نفوسنا مع كل هذا الصخب والقبح المنتشر في مجتمعاتنا وثقافتنا التي دخلتها النسبية من كل جانب.

من هنا بادر بعض الشباب بأشياء بسيطة جدًا يلتمسون فيها الجمال وصفاء الروح.. كحملات ركوب الدراجات في الصباح.. أخبرنا بعض الشباب أنهم أصبحوا يرون شوارع مصر من منظور آخر بعد هذه التجربة. كذلك حاول بعضهم اللجوء للصحراء وصعود الجبال، خاصة في سيناء وتحديدًا في كاترين بحثًا عن السلام النفسي والهدوء. ربما نحن بحاجة لأن نتواصل مع بعضنا بعض من إنسان لإنسان ونرفع أعيننا عن الشاشات ونحدق بتفاصيل صغيرة في الكون تزيح عنا هذا القبح.

المقالة السابقةسلامتها أم حسن
المقالة القادمةحب بطعم بأريع بنات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا