رانيا منصور
زمان.. في بيت أهلي، لم أكن أعرف أن المرض ليس العذر الوحيد لأخذ إجازة من المدرسة.
(١)
كنتُ أعمل في شركة ألمانية في أعمال الإدارة والسكرتارية، كان راتبي جيدًا حينذاك، غير أنني بعد فترةٍ مللتُ المهام الروتينية الملقاة على كاهلي، وأصبحتُ مريضة بعملي هذا. أصحو صباحًا كل يومٍ “بطلوع الروح”، يتعب جسدي، يعلو سكر دمي أو ينخفض، يصيبني دوارًا لا أقوى معه على الحركة وأخشى السقوط، يرن منبه الموبايل، لأغلقه وأؤجل تنبيهه مرة بعد مرة، لا رغبة في النوم بقدر ما هو فرارًا من الواقع الذي سيأتي لا محالة.
وحين يهزمني المرض ولا أقوى على الذهاب، كان لوم والديَّ يقصم ظهري، حتى أقرر ألا أغيب عن العمل مرةً أخرى، الجميع كان يرى في الأمر قلة تقدير أو “بَطَر”، الجميع يوجهني لما يرى فيه الخير باللوم والعتاب المدقع، وهكذا أذهب للعمل المرير كل يوم.
ذات مرةٍ، اعتذرت عن الذهاب للعمل وخرجتُ من البيت كالعادة، واتجهت إلى حديقة الأزهر، كنتُ أرغب في استنشاق هواءٍ دون لوم على ترك العمل الذي أكرهه، أمضيتُ اليوم هناك وعدت للبيت فارغة من بعض القهر.
قررتُ ذات يوم ترك العمل تمامًا، فعدتُ من منتصف الطريق إلى البيت وأمضيتُ فترةً من الوقت أعاتب من الجميع، مضى على تلك الأحداث نحو 8 أعوام، وأنا غير نادمة.
أخيرًا، أعترف أن لأبي وأمي كل الحق فيما قاما به، هما ينظران للأمر من جانب “مصلحتي” التي يعرفانها أكثر مني، يفعلان أقصى ما يعرفان القيام به لتوجيهي للخير، لسلامتي، حبًا واهتمامًا.
وأنا مثل أبي وأمي، لم أتعلم أن أمنح نفسي سببًا واحدًا يبتعد بي عن لوم الذات وتقطيعها إربًا لو قصَّرت في شيءٍ ما حتى الآن، أتمنى ألا أفعل ما ضقتُ به في الماضي مع أولادي.
(٢)
في بيت أهل زوجي الحياة مختلفة.
الأولوية للنفس لا للآخرين، يذهبون للقيام بالواجب حين يستطيعون ذلك، تقول حماتي “إذا لم تقدّر نفسك وما تستطيع القيام به، فلن يقوم بذلك أحدٌ بدلًا منك”.
يروح عقلي بعيدًا لكيف أننا نقتل أنفسنا للقيام بالواجب، أمي تحمل “الواجب” فوق رأسها دائمًا. “لازم نعمل الواجب قبل ما ناكل ونشرب”.
“فلان عمل معانا الواجب، لازم أردّهوله حتى لو مش قادرة أمشي”، تقوم لعمل الغداء ومسح الأرض وتنظيف الشقة وإن كانت تتلوى من آلام ركبتيها، لأنه “لازم“.
أن تقوم بالواجب والمفروض طوال الوقت أفضل من وجهة نظر الناس بالطبع، لكنه أكثر تعبًا وإيلامًا للجميع من الداخل.
(٣)
- ما بترديش ع التليفون ليه؟
الإجابة التي يريدونها هي أن دمي كان يسيل منذ قليل، أو أن درجة حرارتي تعدت الأربعين أو أن مكروهًا وقع لشخصٍ ما، أما الحقيقة التي لا يبتلعها الناس أن المرء أحيانًا لا يقوى على الكلام أصلًا، أنني قد أكون فقط في ضغطٍ أو ضيق أو حزن أو ارتباك أو اكتئاب، كل الأسباب التي لا تذهب بك إلى الصيدلية لا تعدُّ أسبابًا حقيقية لترك هاتفك أو عدم وفائك بـ”مشوار” ما.
الجميع يريد منك أن تختلق أعذارًا لعدم وضعهم في أولوياتك القصوى.
الجميع يكذب على الجميع ليراه الناس مهتمًا دائمًا.. متاحًا دائمًا.. مرحبًا دائمًا.
(٤)
قررتُ أن أخلع نفسي من عباءة الكذب المقنع بالمجاملات.
لن أذهب لمكانٍ لا أرغب في وجودي فيه، لن أحدث أحدًا حين أشعر بعدم الرغبة في ذلك.
إذا كنتُ متعبة، فلا حاجة لي برأي أحد، أنا متعبة لا أستطيع الذهاب لأي مكانٍ.. لكن ساقي ليست مكسورة بالضرورة.
(٥)
سبعون عذرًا.. لا تعني سبعين مرضًا بالمناسبة.
في بيت أهلي، لم أكن أعرف أن المرض ليس العذر الوحيد لأخذ إجازة