كنت في الثالثة من عمري -الثالثة وشهر وعشرة أيام إن أردنا الدقة- حين ذهبنا لزيارة أبي في المستشفى مثل كل صباح، ووجدنا الفراش خاويًا، مرتبًا ونظيفًا، هل كان الله معنا يومها؟ أظن أنه كان معنا يواسي قلب أمي ويمسكها عن الصراخ أو البكاء، لتطاوع طفلة بلغت الثالثة فقط منذ شهر في اللعبة.
– يمكن بابا راح الحمام؟
فتذهب ورائي لنبحث عنه في الحمام.
– يمكن نزل الجنينة؟
فتنزل معي إلى الجنينة للبحث عنه.
وتستسلم أخيرًا لما أدركته من اللحظة الأولى، لتتركني مع مجند أسمر يلاعبني بالكرة في حديقة مستشفى المعادي العسكري، بينما تتنقل بين المكاتب لتنهي تصاريح دفن زوجها.
يبعث أبي الحلوى والألعاب من السماء
يبعث لي الله بكل ما طلبته، كأن أبي لم يغب عن البيت، يبعث الحلوى والملابس والألوان وألعابًا تدهش أصدقائي الذين لديهم آباء.
– مين بيجيبلك كل ده وأبوكي ميت؟!
أبكي وأخبرهم أن “بابا مسافر”، وأنني أشير إليه كلما مرت طائرة في السماء. يراني بابا ويسمع طلباتي ويرسلها لي. وقد زرته مرة في مكان لا أعرفه لكنه كان نائمًا، فتركنا له باقة ورد برتقالية دون رائحة، لم أنس شكلها حتى الآن. ربما لهذا أكره اللون البرتقالي!
في عمر السادسة عرفت أن بابا في السماء، ليس مسافرًا ولا يركب الطائرات، لكنه في السماء نفسها. لم تستطع أمي أن تخبرني بنفسها، فتركت الأمر لصديقتي مروة التي كانت في الحادية عشر من عمرها في هذا الوقت. توقفت عن الإشارة للطائرات بعد أن فهمت كل شيء، وعرفت أن أبي لا يركب الطائرات. تعلمت أن أفتش عن وجهه جيدًا وصرت أراه في السحب. أرسل الله لي في السحب وجوه الراحلين الذين أحببتهم جميعًا، أراهم فيطمئن قلبي.
***
عليَّ أن أنجح دون مساعدة
في المدرسة كان عليَّ أن أنجح دون مساعدة أحد؛ أمي لا تعرف القراءة والكتابة، لكن الله كان يصحبني. أصعب ما واجهني في صغري هو الحفظ. كيف أتأكد من أنني أحفظ الآيات في كتاب الدين دون أن يكون هناك من “يُسمّع” لي؟ ابتكرت أمي حكاية شرائط الكاسيت، أضغط على زر التسجيل وأقرأ من ذاكرتي، ثم أعيد الاستماع وأراجع ما قرأته من الكتاب.
بينما أبحث عن شريط يصلح للتسجيل وجدنا شريطًا قديمًا لوردة “طبعًا أحباب”، كنا نستمع إليه حين قطع الغناء فجأة صوت أبي وصوتي وأنا طفلة قبل وفاته بشهور، يمزح معي ويضحك، قبل أن تنتبه أمي إلى ضغطتها الخاطئة على زر التسجيل وتضحك “يوه! كده سجلنا ع الشريط يا عم حسين!”، ليعود صوت وردة. وأعلم أن الله معنا دائمًا.
لم أعد أشبه أبي
أمي تلخص أحوالي دائمًا في شبهي بأبي، ترضى عنه حين ترضى عني، فتقول إن “قلبي أبيض وميعرفش اللوع، زي أبويا”، وحين تغضب عليِّ تغضب عليه أيضًا وتقول إن “دماغي ناشفة وعصبية وعنيدة زي أبويا”. كبرت يا أمي وذاب عنادي، لم أعد أشبه أبي في شيء. يمر العالم فوقي ويدهسني ويساوي جبهتي بالأرض ولا أنطق. تسرَّب عنادَك من شقوق قلبي يا أبي ولم يبق لي سوى اسمك.
متى تبدأ الذاكرة؟
متى تبدأ الذاكرة؟ ومتى تنتهي؟ أتذكر جيدًا صوت ضحكته، جلبابه المنزلي الرمادي الذي صار واسعًا جدًا في شهور المرض الأخيرة، والعصا التي كان مقبضها يشبه وجه صقر ظلت عيناه تطاردني لسنوات. أتذكر أنه كان يحملني فوق كتفيه العاليتين، أتذكره يطعمني الموز بيديه في عربة مترو مهتزة، أتذكر علب المربى التي كان يحتفظ بها لي في الدرج إلى جوار فِراشِه في المستشفى في أيامه الأخيرة. وبالطبع أتذكر الخراطيم الملتفة كالثعابين تخرج وتدخل في جسده.
متى تنتهي الذاكرة ويبدأ الخيال؟ هل كانت الخراطيم حقًا منغرسة في جانبيه كما أتذكر، أم أنها كانت مجرد كانيولا في ذراعه؟ تقول أمي إن رئيس القسم في المستشفى كان طيبًا، يرفض أن يكتب له قرار الخروج كي لا ترى الصغيرة كل هذا الألم. لكن هذا لم يمنع عني رؤية الخراطيم.
أين الله؟
– ماما.. هو ربنا بيشوفنا؟
– أيوة يا مارية بيشوفنا طول الوقت وفي كل مكان.
– يعني هو بيشوفنا وإحنا في مصر وبيشوف لينا صاحبتي وهي في السعودية؟
– أيوة بيشوف كل حاجة وكل حد في كل وقت ومعانا دايمًا.
– زي السحاب؟
أنظر إلى السحاب، فأرى وجه أبي يربت على قلبي.
– ﻷ مش بالظبط يا مارية؛ السحاب مش موجود طول الوقت.
– امممم.. يعني ربنا كده زي الهوا وزي نور الشمس؟
– زي الهوا ونور الشمس يا مارية.
اقرأ أيضًا: بيت مفتاحه معي وحدي