رأيت الله يقينًا وإيمانًا

740

بسنت

– هل رأيت الله من قبل؟
– أنا رأيته!
ربما أنا لست بأصلح عباد الله، تملؤني الذنوب ويسترني بكرمه وعفوه ورحمته كل مرّة، ولكنني رأيته، أليس الشعور بالمحب رؤية؟
وتلمُّس حضوره بين ثنايا روحك وصدرك رؤية؟
يقولون إن رؤية المحب شعور دون رؤيته كيانًا ماديًا ملموسًا من أعلى مراتب الحب وصولاً وأصدقها على الإطلاق.

رأيت الله يقينًا وإيمانًا في نفسي ومن حولي في لحظات الموت والولادة، رأيت الله رحمة وكرمًا في كل الأديان، رغم تقصيرنا وذنوبنا،
كان جلّ شأنه أقرب إليّ وإليهم من حبل الوريد.

يُخرج الحي من الحي
أذهب قلقة لغرفة الولادة في حالة صحية غير مستقرة، محملة بالألم والدعوات والخوف، لحظات وسيشقون بطني ويخرجون قطعة لحم
بها قلب ينبض، يخبرونني أنها ابنتي، لن أتحدث عن معجزة الحمل وجسدي الذي كان يحمل قلبين داخله يدقان معًا، أو عن مناجاتي لله
وإجاباته الوافية المطمْئنة. سأتحدث عن ولادتي، وكيف تجلّى الله في غرفة العمليات.

كنت أردد جملة واحدة قبل أن أغمض عينيّ مُخدَّرة لمدة ساعة ونصف، "يا لطيف الطف بي وبها"، تجلى الله اللطيف الرحيم في قلبي
فخُدرت مطمئنة هادئة، خرجتْ طفلتي للعالم، ثم استقرت حالتي الصحية وتبددت مخاوفي بسماعي لصوت بكائها.

تخبرني الممرضة أن ولادتي كانت ميسرة ولم تحدث أي مضاعفات كانوا يخشونها، وكأن "إيد الله كانت ممدودة مع إيد الدكتور"، تعبيرًا
عفويًا خرج منها، كان أصدق شيء سمعته حينها، كنت أود إخبارها بأن تحذف كلمة "كأن"، لأنني شعرت فعلاً بوجود الله كما لم أشعر
من قبل.

جدتي زهرة
أتذكر مرضها ووفاتها في أيام قليلة بعد المرض، كانت جدة من الجنة، لا زال وجهها الملائكي على فراش الموت محفورًا بذهني، لا
زلت حتى أردد دعوتها العفوية "يا رب أموت وتراب السكة على رجلي" رغبة من الله ألا يمرض لها جسد تُثقِل به على أولادها، كانت
ترغب في أن يحين أجلها وهي واقفة، تسعى وتخدم وتضحك، وكان لها من الله ما أرادت.

جدتي العجوز التي لم تتلقَ تعليمًا عاليًا، كانت تتواصل مع الله بطريقتها الخاصة، كانت تدعوه بدعوات لم أسمع بها من قبل، فأتعجب
كيف سيتقبلها الله، كانت تضحك وتقول لي "حسابات ربنا ملهاش دعوة بحسابات الخلق".

حين مرضت أيامًا، كانت راضية ومسالمة ومبتسمة كما عهدناها، تخبرنا بيقين غريب أن أجلها سيحين وهي واقفة على قدميها،
"متخافوش يا عيال أنا دعيته ياخدني صاغ سليم واقفة على رجلي"، كنا نبكي فتحزن، وتخبرنا أنه يزورها يوميًا، تراه نورًا جميلاً
يطمئنها، تخبرنا أنها لا تشعر بالوجع الذي نتحدث عنه في جسدها، وتؤكد بيقين أن موتها لن يكون على فراش غرفة كئيبة في المستشفى،
ستذهب له شافية.

كنت حينها أصغر من إدراك هذه الحقيقة، ولكنني الآن حين أتذكر أن روح جدتي صعدت لبارئها وهي واقفة على قدميها محتضنة أمي
خارج أسوار المستشفى بعدما أكد الأطباء تحسن حالتها الصحية، يقشعر جسدي وأتيقن أن الله كان حاضرًا معها، ذهبت له كما أراد
وتمنت. كانت جدتي ترى الله كل ليلة فرحًا ولا نراه نحن لأننا حزانى.

فإني قريب
جارتنا آمال، السيدة القبطية الجميلة، كنت أدعوها جدتي، الحقيقة أننا عشنا معها أكثر ما عشنا مع جدتيّ من الأم والأب.
لا تغيب ضحكتها وعباراتها عن ذهني أنا وأمي وأخواتي، لن يغيب يوم رحيلها عن قلوبنا أبدًا، يوم رأيت بعيني رحمة الله وعفوه
متجسدًا.. كنا في بداية شهر رمضان حين مرضت ولم نتخيل أنها ستفارقنا سريعًا هكذا!

أحضرت لنا الفول المدمس الذي أعدته خصيصًا لرمضان، نجلس للسحور، وترافقنا صُحبتها العطرة، تتحدث عن لطف الله وكرمه بأن
مرضها في مراحله المتأخرة وبذلك لن تعاني كثيرًا، تتحدث برضا وهدوء عن أنها مستعدة للذهاب إلى الله بعدما رأت أحفادها، تداعبها
أمي أنها لا زالت لم ترَ أحفادها مني بعد، فتضحك قائلة "لا مش هينفع أستنى، أنا حاسة إني هروح لربنا قريب قوي، أنا حساه هنا
حوالينا".

تتغير ملامح أمي وتصمت حزنًا وقلقًا، فتبتسم جدتي آمال قائلة "أنا خلصت خياطة هدوم التقديس، أهو لو مروحتش القدس أروحله بيها".

ينتهي أذان الفجر في الليلة التالية، يوم 10 رمضان، مصحوبة بصعود روحها المطمئنة لله، رحلت جدتي آمال في أيام الرحمة والمغفرة.
رحلت وهي ترى الله متجليًا في رحمته بها من أوجاع المرض الخبيث، وأشهد الله أنني رأيته في روحها المطمئنة وصحبتها اللينة
الرحيمة، ووفاتها راضية مرضية.

لم تنتهِ المواقف التي تتجلى فيها عظمة الله جلّ شأنه، ولن تنتهي حتى ألقاه، لست وحدي من أرى الله بعين قلبي، المظلوم والمسكين
واليتيم والمكسور يراه سلامًا وبردًا على وجعه، والعاصي والظالم والمُتجبر والفاجر سيراه يومًا جبارًا عظيمًا أو توابًا غفورًا رحيمًا.
أوليس هو القريب المُجيب؟

المقالة السابقةاستعدادات رمضان اللي قسمت وسطي
المقالة القادمة“سيدهارتا” ورحلة البحث عن الله
باسنت إبراهيم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا