حكاية عن اللافندر والاحتواء

1380

لديّ قنينة عطر متوسطة الحجم، شفافة وغطاؤها أخضر فاتح اللون، اشتريتها بعد تردد وحذر مبالغ فيهما قليلاً، لكن كانت لديّ أسبابي. لديّ ذلك الماضي الثقيل من محاولات الادّخار المرهقة لكل قرش أحصل عليه، إذ لم يكن عندي دخل ثابت، فلم أكن أعمل، واعتمدت على الإعانات الأسبوعية البسيطة التي حصلت عليها من والديّ. في مثل تلك الظروف، تعتبر زجاجات العطر رفاهية. حسنًا، ربما تغيّر الوضع قليلاً بعدما عملت في وظيفة ثابتة بدخل ثابت شهريًا مع احتمال زيادة سنوية، وقررت التمسّك بها جدًا رغم أنها أنهت تقريبًا على أي شيء آخر إلى جوارها، لكن.. ربما ما أنهى على تلك الفرص تمسكي بحياة رتيبة هادئة تمشي في قضبان قطار لا تحيد عنه.

 

أقول توظفت، وحصلت على مرتبي، الذي كنت أحافظ عليه قدر الإمكان أيضًا. لكن جاء شيء غيّر قليلاً من مسار ادّخاري، ووضعني أمام امتحان حقيقي صغير لرغباتي، شيء يشبه الإغراء الشيطاني بالصرف.

 

اشتركت زميلة في المكتب في منظومة ضخمة تملكها شركة سويدية لمستحضرات التجميل، تعمل تلك المنظومة ببساطة على نظام البيع (من الباب للباب)، أي تعرض كُتيّب المنتجات على رفاقك/ جيرانك/ زملاء العمل، ويختارون منها فتصدر أمرًا بالشراء وتأتيك الطلبيات مع خصم بسيط في السعر يصبح هو هامش الربح الخاص بك. كانت تلك الزميلة كريمة النفس جدًا فتخلّت عن هامش ربحها لصالحي. لسبب ما، كنت عميلها الوحيد.

 

يأتي الكُتيب البراق بصفحاته الملوّنة والناعمة. نساء العرض فيه -مع اعتراضي على استخدام وجوه البنات والسيدات وأجسادهن كسلع أو للإعلان عن سلع- تتراوح أعمارهن بين العشرين والأربعين. سررت حين وجدت بينهم من بلغت الأربعين وتخطتها، وما زالت تحتفظ بنضارة الوجه مع بعض التجاعيد. منذ فترة، كففت عن النظر إلى وجهي في المرآة محاولة إحصاء عدد التجاعيد التي تحيط بتضاريسه: اثنان بجوار الفم، اثنان تحت العينين، تقطيبة لم تترك أثرًا لحسن الحظ، لكن مع رفع الحاجبين لأعلى، يتكرمش الجلد ليكوّن خطوطًا متوازية كأمواج محيط متلاحقة.

 

أقول أبصرت الكتيب فانبهرت. منتجات لطيفة حقًا وبعضها أحتاجه والبعض الآخر رفاهية، لكنهم يجيدون عرضها والإعلان عنها. كان الامتحان الحقيقي شطب كل ما وضعت علامة عليه ونقلت اسمه ورقمه إلى ورقة بيضاء مسطّرة انقسمت لاثنين: قسم لما أريده والآخر لما أحتاجه بالفعل. الاختيار صعب، لكني نجحت في معظم الشهور (الكتيبات تنزل حسب الشهر) في تقليل ما أشتريه لنحو النصف من عملية الاختيار الأولى. كنت أدفع لزميلتي وأنا متحسرة قليلاً على النقود، خصوصًا مع صغر حجم القنينات والعبوات مقارنة بسعرها، لكن مع وجود بهجة حقيقية بالأشياء الجديدة التي اشتريتها. ومنها العطر.

 

برائحة اللافندر والتين، يأتي عطري في زجاجة بلاستيكية شفافة بسيطة، وغطاء أكثر بساطة، أخضر فاتح. جرّبته بحذر في أول الأمر، فأعجبت برائحته على الفور. وضعته على المكتب وصوّرته، بحلّته الجديدة وامتلائه بعد. ومن هنا بدأت الحكاية.

 

احتفظت به في حقيبتي، فكان معنى هذا أنه للشغل فقط، حيث لم يكن للـ”خارج” أي معنى سوى العمل. في مكتبي المكعب الذي تجاوره مكعبات باقي الزميلات الأقدم مني، أرجعت الشاشة للخلف جدًا، حتى وصلت للحائط، وساعدني على ذلك نظارتي الجديدة التي تجعلني أرى من على بُعد معقول، وتكبير أحجام الأشياء على الشاشة. في المسافة بين الشاشة وكرسيّ، يوجد جداران للمكعب، استغللتهما جيدًا جدًا: وضعت سورة الضحى، وآية من سورة يوسف تصف أنه حتى الرسل تيأس، لكنهم يعودون للأمل ثانية، وهنا تأتيهم إجابة دعواتهم. بجوار الآية، ورقة ملونة بالألوان الخشبية عليها بيت لأمين حدّاد: “باسمك اللهم بارك في صباحي”، حيث كانت وما زالت الصباحات أسوأ أوقات يومي، وأكثرها كآبة وحِدّة طبع وانهزامية، فجاء البيت كتعويذة صباحية دفاعية جميلة.

 

أسفل شاشة الكمبيوتر، وضعت قصاصتين من الأوراق الصفراء ذاتية اللصق، وألصقتها بسلوتيب كزيادة في التأكيد. في الأولى مكتوب أبيات لمصطفى إبراهيم: 

 

“الأولة أرزاق مفيش حيلة ولا سكة غير المكتوب مقسم كله بالحتة وكله نصيب/ متزعلشي/ التانية أسماء عيال بتحب ع الدكة وراسمة قلوب لكل الخلق إلا أنت ملكشي حبيب/ متزعلشي/ والتالتة بشتاق لطعم الفرح والضحكة يا شيخ أيوب أنا مليت هدوق امتى؟ قالي قريب/ متزعلشي”.

 

ربما هي المرة الأولى التي أُعجب فيها بمصطفى وشِعره. إلى جوارها، قصاصة أخرى مكتوب عليها أبيات لأمين وفؤاد وأحمد حدّاد، وأحمد علي الحجار (غناؤه وليس شِعره). على الحائط الأيمن، صورة وردات فوشيا وأصفر مبهجات، ووريقة صغيرة جدًا تحوي سطرًا واحدًا: “كدّاب اللي يقولك العادي عياط” لأمين حداد. على الحائط المقابل، وريقة صغيرة أيضًا، مكتوب عليها “عزيزي معلوم الهوّية: عينيّ بتدمع لوحدها، وحشتني”.

 

على المكتب، “قُلّة” فخارية صغيرة جدًا بها ورقتا شجر عريضتان، وزهرتان بيضاوان تفتح في الصباح وتغلق مع حلول العصر وقبل المساء. ملصق بجوارهما على السطح ورقة بها ردّ لصديق لي ثوري، سألته عن “ما العمل؟” فقال إنه لم يكن يومًا متفائلاً مثل تفاؤله في تلك المرحلة، وأن الموجة القوية قادمة لا محالة. وحينها، وحين يتحقق النصر، سنجلس جميعًا نشرب شايًا بالفواكه وضمائرنا مرتاحة أننا عملنا اللي علينا. كلماته كانت مؤنسة، بشكل ما، صدقتها.

 

كنت أحاول خلق جو حميمي يخصني وحدي. وضعت صورة فاتن حمامة وهي صغيرة، ووراء الشاشة صورة لبيت مقبب بالأبيض والأزرق من جزيرة سانتوريني باليونان. كنت خائفة جدًا لأسباب تخصني وتخص الوطن والمشي في الشارع المحفوف بالمخاطر التي لم أسلم منها. لم أكن يومًا قوية، لكني أدركت بعدها أني كنت قوية جدًا بالفعل في النهوض من الفراش ومواجهة تحديات اليوم حتى نهايته. لذلك كنت أعود للمنزل منهكة تمامًا من الصراع النفسي طوال اليوم والخوف ومحاولات الطمأنة. لذلك، كنت ألجأ إلى العطر.

 

أرش منه، كثيرًا، وعلى رسغيّ وأدعكهما معًا. أسمع أم كلثوم. في حقيقة الأمر، لم أمتنّ لسيدة بعد أمي مثلما امتننت لها، ودعوت لها من قلبي. كان مسموحٌ لنا بتشغيل اليوتيوب فكنت أفتح فيديو لـ”فكروني” وتأتي هي لتغني. أحدق فيها للحظات ثم أفتح صفحة الترجمة وأبدأ في عملي. لم أركز أبدًا في كلمات أي أغنية عدا هذه، لأني شغلتها ما يقرب من 300 مرة بلا مبالغة. دائمًا نفس الفيديو، دائمًا نفس الانبساط عندما تقول “فكروني إزاي، أنا إمتى نسيتك؟”، ثم يصفق الجمهور بشدة وينغلق الستار فتفتحه هي لتخرج للناس وتنحني لهم فيزيد انبساطهم وانبساطي. ساعتها أشعر جدًا بما قاله أحد المستمعين مرة: “الله على كرمك يا ست!”.

 

كانت تؤنسني، وكأنها تعرف ما أمرّ به، وهي الحكيمة تؤازرني. أسمع لها أغنية تلو الأخرى وأحاول التركيز في عملي، لذلك تضيع مني كلمات الأغاني ولا أدرك ما تقوله إدراكًا جيدًا أو ملمًّا بالظروف والكلمات. لم أحاول البحث وراءها، لكني تأثرت بما قالته سمر دهمش في كتابها “بين الشرق والغرب” إنها بكت عندما شاهدت مسلسل أم كلثوم، وكانت في الغربة قبل اختراع الفضائيات. مشاعر كهذه يمكنني فهمها.

 

أقول إذن، أضع عطري، آخذ أنفاسًا عميقة، أضع السماعات الخارجية وأسمع أم كلثوم. تنتهي أم كلثوم فأفتح موقع calm.com الذي تكرمت الكاتبة ريهام سعيد بنشره ووصل إليّ. يضعون موسيقى لطيفة، في ذلك الموقع، وهناك فرصة “التأمل” لدقيقتين أو خمس أو ربع ساعة. أضغط على “التأمل” لدقيقتين فتقول السيدة أشياء لطيفة، تهدئني قليلاً. أفتح موقع التمبلر بصوره الجميلة جدًا وأبتعد تمامًا عن الفيسبوك بقبحه وواقعيته وعجزه وقهره. أظل أسمع لأم كلثوم وأشم في اللافندر والتين، وأحاول الترجمة، وتمضية يومي.

 

كانت أيامًا لطيفة، في مجملها. صعبة، نعم، لكنها مرّت، وأحيانًا يكون الانتصار الحقيقي هو المرور الهادئ، والخروج بأقل الخسائر. ما زلت حية، أحمد الرب، في بلد لا يتساهل مع أبنائه، ويقابل معروفهم بالشر، ولا يخجل.

المقالة السابقةعلامات الأنوثة الطاغية: إزاي تمتلكي أنوثة حقيقية
المقالة القادمةزرقا بس تقاطيعها مسمسمة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا