جروبات البنات وأفورة الفتوكات اللهلوبات

664

(١)

أجلس كعادتي أتناول شاي الصباح في البلكونة الصغيرة المُطِلَّة على البحر، أستمتع بهدوء صباح الشتاء، ولن أكون مبالغةً إذا قلت إن صوت فيروز كان يشدو في الخلفية كأى حدث عميق في حياة  كاتبة عميقة جدًا.

 

تصفحت الفيسبوك كنوع من تمضية الوقت حتى ينتهي كوب الشاي، لتقع عيني على بوست فريد جدًا من نوعه في إحدى جروبات البنات المعروفة، لفتاة تبدو حديثة العهد بالأمومة، تضع صورتين لـ”لانش بوكس”، كل منهما بما يُقارِب الألف جنيه، توجه نداءً خاصًا لكل “الماميز”، متساءلةً عن أيهما الأكثر نفعًا وأكثر إضافةً للصحة وحفاظًا على “كواليتي” الطعام، وكنت على وشك تجاهل المنشور كليًا، ليس فقط لشعوري بأن ألف جنيه رقم مبالغ فيه جدًا للانش بوكس، فثمة جوازات “بتُقف على باكو” كما تقول دنيا سمير غانم، ولكن أيضًا لأنني لست ذات خبرة فظيعة بأمور الأمومة وخلافها، إلا أنني وجدت تعليقات لا تقل عن المئتين، من بينها من تشيد بنوع من بينهما، ومن بينها من تقترح أنواعًا أخرى أكثر حفاظًا على كواليتى الطعام، لكنها أعلى سعرًا.

 

ولم أكد أتخلص من إحساسي بأنني غير كُفء بالمرة لأصير أمًا بعد هذا، لأنه إذا طلب طفلي لانش بوكس بألف جنيه أو أكثر كنت سأعطيه كيسًا بلاستيكيًا يحتوي على ساندوتش المربى المفعص إياه، متداخلاً مع سندوتش الجبنة بالخيار الذي كان سببًا كبيرًا في أن أصبح امرأة سليمة الجسم، حتى وقعت عيني على بوست آخر تتجمع فيه “الماميز” ليتناقشن في أفضل مكان يمكن منه شراء “ليجوز” أو ألعاب مكعبة، لأجد أسماء براندات وماركات للألعاب تصل إلى أسعار خيالية، ورغم أن هذا كان بالنسبة لي شيء غير واقعي بالمرة، لكنه كان شيئًا عاديًا جدًا في محل النقاش، مما جعلني أتيقن أنني لن أرقى أبدًا للانضمام لفئة الماميز التي تصر على تمرين أطفالها على السباحة والتايكوندو والتنس معًا، وتجعل أطفالها يتحدثون على الأقل ثلاث لغات، ولا تجعلهم يقولون عصير برتقال أو حذاء، بل هي الشوزة والأورانج جوس، وإلا ضاع مستقبل الأطفال طبعًا، وهو ما يرعبني جدًا جدًا، لخوفي من عدم الامتثال لقواعد الأمومة السوبر، التي أكاد أقسم أنني لن أستطيع بالاضطلاع بمهامها القوية المهلبية لأنال في النهاية شهادة الأيزو في الأمومة.

 

(٢)

لم يكن هذا هو البوست الوحيد الذي قدح شرارة التفاعل بيني وبين جروبات البنات، فبعيدًا عن بوستات وفيديوهات وصفات الطعام الجهنمية، والقدرة على صناعة اللانشون والنيوتيلا بالمنزل  من أجل صحة أفضل، فضلاً عن فيديوهات وبوستات ماسكات الشعر والبشرة، التي تتكون من مكونات لم أكن لأحلم أن أضعها على شعري أو بشرتي، بدءًا من الحلبة والماسترد وزهرة جبل الإغريق التي تعيش لأربع وعشرين ساعة فقط، وخل التفاح الأحمر وعصير السكر البني، انتهاءً بالكولاجين الطبيعي المستخلص من رحم زيت بذر الكتان، والقطن المستحلب من جبال الثلج في لبنان، إلا أن أشد ما يؤلمني هو بوستات عن مدى أهمية شراء الميكب المستورد، والعطور التي يبلغ سعرها أرقامًا فلكية، والميكب آرتيستس الذين تبلغ أسعارهم ما لا يقل عن ٦٠٠٠ جنيه.

 

وهو ما يدعوني في كثير من الأحيان إلى شعوري بأنني لن أصل أبدًا لمعايير الجمال الذاتي أو الاعتناء بالنفس، ليس لما يتعلق بمستوى مادي على الإطلاق، وإنما للمغالاة في الاعتناء بكل شيء، إلى الرغبة في الوصول إلى الكمال، ربما لمحاكاة نساء هوليوود، الذين هم في واقع الأمر لا يبدون بهذه الصورة أصلاً، وهو ما يجعلنا كنساء ننفق جهدًا وطاقة ووقتًا ومبالغ مالية طائلة، فقط لنبدو مثلهن، وهو ما يجعلني أشعر بكثير من الأفورة، كثير من الرغبة في أن أصل لهذا المعيار، رغم إيماني بأن كل امرأة جميلة بذاتها، وأن ثمة طرقًا لإبراز الجمال تتفق مع كل بشرة على حدة أو نوع شعر على حدة، فكل امرأة كيان فريد بحد ذاته.

 

(٣)

“يا بنات مش هنتحب زي عمر ما بيحب دفنا في حب للإيجار بقى؟!”.

بوست آخر على إحدى جروبات البنات المشهورة جدًا، تصل التعليقات عليه للألف، كلهن يؤمنن على مدى سعادة “دفنا” بحب شاب ثري ووسيم، وإنها بالطبع “الريليشنشيب جولز” لأي فتاة، لنرى أن الأفورة لا تقف عند حد “الماميز” والفاشونيستا، وإنما تنخر بسوسها في العلاقات أيضًا.

 

يمكنني جديًا أن أقول إنني لم أجد السعادة في الحب إلا بعد إيماني بأن الحياة مطبات، وبأن الشموع والورود والـ”الله يخليلي إياك يا عمر” بعد أن صنعت له بيديها حذاءً لعرسهما ليست حقيقية بالمرة، ليس لأننا نفتقر للرومانسية، بل لأن ما نراه ليس رومانسية حقيقية بالمرة، إنما هي رومانسية مصطنعة لا تحدث سوى في الأفلام، لأن الرومانسية الحقيقية هي الرومانسية القائمة على تفاهم الطرفين وقدرتهما على تجاوز عقبات الزمن، خصوصًا في حياة يبدو إيقاعها سريعًا جدًا، بل إنه بشكل عام، تمتلئ المسلسلات والأفلام بـ”الأفورة اللي جابتنا ورا” حرفيًا، وهو ما يجعلنا لا نفهم أسس العلاقة السوية، ونحاول أن نساوي أنفسنا بالأمثلة ذات التوقعات العالية.

 

ففي رمضان الماضي مثلاً، كانت جروبات البنات تحتفي بمسلسل “حلاوة الدنيا”، بينما كنت أراه مبالغًا بشكل يستدعي البكاء الهستيري، لأنه كان حرفيًا يقول إن معاناة مريض السرطان ستختفي كليًا إذا كان غنيًا، بينما كانت جروبات البنات لا تكف عن حب “سليم” و”أمينة”. كنت أحاول بقدر الإمكان تجنب البوستات عنهما.

 

(٤)

تمتلئ السوشيال ميديا بشكل عام بالأفورة، فهذا لا يقتصر على جروبات البنات فقط، ولكن.. الرغبة لدى البنات تحديدًا في تحقيق المعادلات الصعبة، ليكن دائمًا “الوندر وومان” هي ما تجعلهن يسرن على شعرة من الأفورة، في محاولات ليكن أجمل شكلاً وأحسن أم وفي أجمل علاقة، وهو ليس واقعيًا بالمرة، فالمغالاة في طلب الكمال مرهقة، مرهقة لحد تستنفد معه طاقاتنا، وتجعلنا نجري وراء السراب.

المقالة السابقة5 خلطات تجميلية قد تُدمِّر صحتك
المقالة القادمةالوصفة المثالية للتربية الإيجابية
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا