بطاطين مؤجلة

1372

كاميليا

 

منذ ما يقرب من ست سنوات تقريبًا عرفت أنني حامل بطفلتي الأولى، كنت في مدينة بعيدة بلا ألوان، أراقب العالم من وراء حوائط زجاجية سميكة، بينما تمتلئ أنفي بالرمال. 

أبحث عن ثقب أطل منه على عالم مختلف، أتلصص على صفحات الأصدقاء على فيسبوك وأتأمل ما يفوتني منهم، أراقب الشوارع التي ستنساني عما قريب.

 

حتى وقعت بالمصادفة على مدونة إنجليزية مهتمة بالكروشيه، لم أكن أعرف عنه شيئًا وقتها سوى غرزة السلسلة التي تعلمتها في حصص تدبير منزلي اعتدنا أن نقضي أغلبها في اللهو أو الصمت التام بحسب مزاج المعلمة.

قضيت الساعات أقلِّب في الصور الملونة والمربعات المتراصة، كان شيئًا ساحرًا لم أر مثله من قبل، الغرز المنتظمة والخيوط المغزولة بحب، تخلق صفوفًا ومربعات من البهجة الملونة. 

 

لم أكن أعرف مكانًا يمكنني أن أذهب إليه لشراء الخيوط في هذه المدينة، لذلك قضيت الشهور أجمع الصور الملونة والباترونات، وأقضي الوقت في التخطيط للمشروعات التي يمكن عملها؛ ملابس للصغيرة التي لم تأتِ بعد، كوفيات ملونة لي ولحبيبي. مفرش للمنضدة ووسائد وبطاطين ملونة.

 

حتى عدت إلى القاهرة. أتذكر أنني في الأسبوع الأول لعودتي ذهبت إلى محل الخيوط الوحيد الذي أعرفه في المعادي، بدت الجدران ساحرة مغطاة ببكرات الخيوط الملونة المتراصة من الأعلى إلى الأسفل.

ما زلت أتذكر بكرات الخيوط التي اخترتها يومها، واحدة زهرية اللون، وأخرى بلون أزرق فاتح، وأخرى متداخلة الألوان بين الأبيض والأزرق والبنفسجي، وإبرة كروشيه مقاس 3. يومها بدأت ولم أتوقف.

 

يصاحبني الكروشيه دائمًا. بين أوقات الحماس التي أنتهي فيها من عمل عدة قطع في أيام معدودة. أو الأوقات التي تنقضي شهور وأنا أعمل على نفس القطعة. أشعر بعدم الرضا وأفكها وأعيد العمل عليها وأصاب بعدم الرضا مرة أخرى، لينتهي بها الأمر في حقيبة ممتلئة بالمشاريع التي لا تكتمل أبدًا.

 

في كل مرة أعود فيها للقاهرة على مدار خمس سنوات أقرر أنني لن أشتري المزيد من الخيوط، لكن الأمر يتحول لما يشبه الهوس، أعود لشراء المزيد من المؤن كل مرة قبل السفر للمدينة البعيدة، كانت الخيوط تتراكم من حولي، وبدلاً من أن تكون متنفسًا للهروب تحولت لشبكة عنكبوت تحاصرني وتذكرني بكل المشاريع التي لم أُتمَّها، نصف كوفية زرقاء، ومجموعة قصصية لم أتمها، مربعات من الغزل تنتظر أن أضمها معًا لصنع وسادة، ولوحة بدأت في رسمها منذ شهور، مطبخ لم أتم تنظيفه، وصداقات مبتورة، ونصف فردة جورب تحتاج فقط لصفين من الغزل لإتمامها، وحوض ممتلئ بالمواعين، وطفلة جديدة تتكون داخل رحمي. عنكبوت يغزل حولنا شباكه دون أن تلتصق بها قدميه.

 

في هذا الوقت قررت أن أنسج بطانية!

كان الأمر ساخرًا وعبثيًا، فبينما لم أستطع أن أتم مشاريع صغيرة ككوفية أو طاقية للرضيعة أبدأ في مشروع ضخم كالبطانية، لكني أبدأ في ممارسة الحساب -الذي فشلت فيه دائمًا- يستغرق غزل كل صف من 20 إلى 30 دقيقة. وهو ما يعني أنني أحتاج إلى نحو 50 ساعة لعمل 120 صفًا. وقتها كان الوقت الفاصل بيني وبين ولادة الصغيرة الجديدة نحو 25 يومًا، فقررت أنني سأعمل على البطانية ساعتين يوميًا لأنتهي منها قبل الولادة.

 

على عكس كل مشاريعي السابقة لم أخطط لترتيب الألوان، عملت بترتيب عشوائي بحيث أراعي أن تربط علاقة ولو طفيفة بين كل لون وسابقه وتاليه. 

كانت البطانية هي الوحش الذي أربيه بين أصابعي ليأكل كل الخيوط التي قضيت أربعة أعوام في جمعها دون صناعة شيء مكتمل منها. كل الخيبات، والغزل الذي نقضته مرة بعد أخرى ﻷنني فقدت حماسي، أو ﻷن هناك عيبًا ظاهرًا يستحق أن أفك كل ما غزلته.

 

هذه المرة أعلم أن كفي لن تطاوعني على فكها مهما امتلأت بالأخطاء أو كنت غير راضية عنها. كان العمل عليها مرهقًا مما يصعب مجرد التفكير في فكها. في عمل بهذا الحجم من الصعب ملاحظة الأخطاء إلا إذا كنت تبحث عنها.

 

أكلت البطانية الخيوط الملونة، البكرات التي تملأ الدولاب فلا يتسع لملابس الصغيرة الجديدة، الخيوط التي اشتريتها في لحظات اليأس ولم أحبها أبدًا، والخيوط التي أحببتها ولم أجد الفرصة أبدًا لغزلها. تبتعد الأفكار السيئة في الخلف، تأكل البطانية القلق والتوتر وذكريات اكتئاب ما بعد الولادة الأولى، وتبقى فقط الصفوف الملونة والغرز التي لا أتقن عدها أبدًا، والأخطاء والعيوب التي تمكنت أخيرًا من التسامح معها وتركها كما هي دون أن أضطر لفكها وإعادة العمل مرة أخرى.

 

هل انتهيت من العمل عليها كما كنت أخطط؟ طبقًا لحساباتي كنت أحتاج 25 يومًا لإتمامها قبل الولادة. لكن.. هل ذكرت أنني أفشل دائمًا في الحساب؟

ستتم ابنتي العامين قريبًا ولم أنتهِ من العمل بعد، لكنها عكس كل مشاريعي التي لم تكتمل، تربت على كتفي في الأيام الصعبة وتذكرني أنني ذات يوم سأنتهي منها ومن كل مشاريعي المؤجلة

المقالة السابقةعن حسين الذي لم يُرِد لنادرة أن تمضي
المقالة القادمةرسالة إلى كشاف النور

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا