عن حسين الذي لم يُرِد لنادرة أن تمضي

393

حسين: إنتي مقرفة يا نادرة، مقرفة.. متمشيش.

نادرة: أنا أصلاً مكنتش همشي.

 

في فيلم “فيلا 69” عرفت محمد الحاج من شاربه. رأيت شابًا يقف مع آخر أكبر منه في السن ويواجهان “حسين”، أو خالد أبو النجا، ويتناقشان بحدة في مستقبل المكتب الهندسي الذي يملكه ثلاثتهم. أنا انفصلت عن الحديث الدائر وركزت كثيرًا في وجهيهما: يبدوان مألوفين! إلى أن توصلت أن الطويل صاحب الشارب هو محمد الحاج، كاتب السيناريو هو ومحمود عزت، والشاب الآخر مخرج اسمه عمرو سلامة، لم يكن عمرو سلامة هو المخرج لأن محمود عزت أخبرني عن أنه استقى الفكرة أصلاً من آيتن أمين المخرجة، وعملا عليها عامين مع محمود عزت الذي انضم إليهما في النهاية.

 

لو بدأت أصلاً في الحكي عن كل ما يُحضِره للذهن اسمي الحاج وعزت ومدونتاهما لن ينتهي الحكي أبدًا. إضافة لأنه شخصي فربما لن يهمك كثيرًا.

 

في الفيلم، يظهر “حسين” عكر المزاج دومًا متسلطًا طويل اللسان. يغضب دائمًا من أصوات الصراخ الآتية من المستشفى القريب إعلانًا عن حالة وفاة جديدة، ويعقب “حد يموت الساعة 10 الصبح؟ هيعملوا إيه بقية اليوم؟”، ولا يردّ عليه خادمه “عبد الحميد” الذي يقرر أخذ إجازة لأن والده مريض بعض الشيء، ولا يظهر لبقية الفيلم.

 

تهجم عليه في الفيلا “نادرة” أخته، التي تلعب دورها لبلبة. تأتي ومعها خادمتها الصينية “عائشة” وابن بنتها “سيف”، لتقيم مع “حسين” بعض الوقت. يعاملهما هذا الأخير بغلظة كبيرة ويطردها أكثر من مرة. إلى أن يقرر أن يصعد لغرفته القديمة في الطابق الثاني، والتي احتلها “سيف” حفيد نادرة، وقال له “كان لينا فيلا، كان الدور التاني فيها لأبويا وأمي، لحد ما قرروا يهدوها بعد كده بسنين طويلة، عمري ما شفت الدور التاني ده”. وكرر آخر جملة مرتين. لسبب ما، قررت أنا أنه يفتقد والديه كثيرًا، وأنه -لسبب ستعرفه مع استمرارك بالمشاهدة- قرر أن يصعد الدور الثاني رغم صحته المتداعية، ويتأمل فيه. ينام على نفسه “حسين”، وبعد ذلك بعدة ساعات يستيقظ ليرى “سيف” نائمًا على الأرض أمام الباب، ليشعر به إذا استيقظ وقرر مغادرة الغرفة.

 

“حسين” مريض. نعرف ذلك من الممرضة “هناء” التي ترتدي قرطًا كثير الحلقات “مخصوص عشانك”، فيسخر منها ومن البلاستيك الذي ترتديه في أذنها، ورغم ذلك لا تغضب منه. “حسين” يأخذ حقنًا كثيرة وأقراصًا ويتقيأ يوميًا، لكنه مع ذلك لا يظهر بالمظهر العاجز المغلوب على أمره المعتاد من السينما المصرية، فهو غاضب على الدوام، يراقب جاره اللواء المتقاعد الذي يركض في الشارع دومًا ليحافظ على لياقته، ويسبه عندما يعرف سبب انتفاخ عضلاته.

 

تزور “حسين” في غرفة نومه -دائمًا غرفة نومه- فرقة من أصحابه يلعبون الموسيقى معًا، يعزف هو على العود ويحاول ضبط مزاجه أولاً ليعزف جيدًا. الفرقة فيها ولدان وبنت، يرتدون جميعًا ملابس من السبعينيات وشعورهم مصففة سبعيناتي جدًا. لا يراهم أحد سوى “حسين”، حتى صراخه في وجوههم لا يسمعه أحد سواه، رغم سكناه في الدور الأرضي كيلا يصعد السلالم من وإلى المطبخ وغرفة المكتب. بعد تدخينهم هم للحشيش وما سواه، يسمح لهم بالنوم حوله في الفراش، ليحيطونه من كل جانب بأريحية كبيرة. ربما يحتاج “حسين” لمثل تلك المحاوطة وإن لم يقل؟ يظل هو ساهرًا قليلاً بعدما ينامون ثم يغلبه التعب، فينام.

 

قرب نهاية الفيلم، يعزفون موسيقى راقصة في جو ممطر، فيسخر من المطر ويأخذ بيد يسرا الهواري ليرقص معها. في المشهد، تبتسم له يسرا جدًا ثم تلقي رأسها على صدره. في المشاهد الأخرى لا يسمح “حسين” لأحد بلمسه، ولا يظهر ضعفه أمام أحد. قبل مشهدين من النهاية، يدخنون الأرجيلة معًا جميعًا، ويسمح “حسين” لنفسه بالتدخين، الأمر الذي تعلّق عليه يسرا بأنه لم يعد يخاف. هل لقربه من النهاية؟ هل يعرف؟ 

 

تظهر فتاة في أواخر العشرينيات في مطبخ “حسين”، وهو يعدّ لها سلطة بالأناناس والخس. يدخل عليهما “سيف” حفيد نادرة، ويبدي تصرفات مثل “حسين” تمامًا، فيقرر هذا الأخير أن ميعاد مغادرة الفتاة قد حان، لكنه يقبلها على خدها قبل أن تغادر. هل غار من “سيف”؟ هل عامله كرجل مثله يخشى منه على فتاته؟

 

قرب نهاية الفيلم تعرف الفتاة ما بـ”حسين” من مرض، منه هو شخصيًا وقد أدار وجهه للناحية المضادة وبكى. تطوُّر بكاء شخصية “حسين” مهم جدًا، ويجعلك تتعاطف معه أكثر. تقول له الفتاة “إنت أكبر غلطة عملتها في حياتي” وتبكي. لم تظهر بمظهر المضحية الجميلة التي قررت أن تضحي بكل شيء وتبقى معه حتى النهاية، لم تقرر أنه أهم منها يظهر ويختفي في حياتها متى يحلو له تمامًا، لم تتخذ دورًا نمطيًا كما اعتادت الحبيبات الجميلات في السينما أن تفعل، بل أخذت حاجياتها ورحلت.

 

الفيلم مبهر، لكن ما جعله أكثر إبهارًا شيئان: السيناريو، وخالد أبو النجا نفسه. يظهر على وجه خالد تعبيرات حقيقية تمامًا، يصرخ بصوت عالٍ، يسب كثيرًا، ينفِّر الناس منه. لكنه يقرر منح الممرضة “هناء” صندوقًا أبيض متربًا، فيه فناجين شاي من الصيني الأبيض العتيق جدًا، ويشتري أرض خطيبها التي يعوّل عليها لتمويل رحلة زواجهما، بشرط أن يكتب شيك ثمن الأرض باسم “هناء”، ليضمن ألا “يخلع” خطيبها بمجرد حصوله على المال. 

 

تضافر السيناريو وتعبيرات خالد لجعل المشاهد تأسر القلب أكثر. ربما تكون مجرد حكاية عادية لمريض عاف الدنيا لدرجة أنه لم يغادر باب الفيلا منذ وقت طويل جدًا، ولسانه أحدّ من مبرد المعادن، ويرفض المساعدة أو الشفقة، لكن تعبيرات خالد، وموقف مثل “إنتي مقرفة يا نادرة، مقرفة” ثم لحظة صمت، ويقول لها دون أن ينظر ناحيتها “متمشيش يا نادرة” بعد أن طردها مسبقًا أكثر من مرة، فتقول بتلقائية شديدة جدًا “أنا أصلاً مكنتش همشي” هي ما تصنع كل الفرق.

 

يقضي “حسين” كل الفيلم مرتديًا روبًا صوفيًا موضته قديمة جدًا، فوق المنامة. يأكل مرتديًا إياه ويقابل المهندس من مكتبه به. يقرر تعليم “سيف” بعض شِعر أمل دنقل ليبهر “آية” جارته وفتاته التي تراه عاديًا ولا يملك هو ليقدمه لها سوى مشاعره التي لا يعبر عنها أصلاً.

 

لكن في نهاية الفيلم، يرتدي ثياب الخروج ويقرر أن يخرج في الفجر. يشاهد “سيف” و”آية” يقلبان في كتبه، فيسبهما ثانية ويردان عليه بابتسامة و”إيه الشياكة دي كلها؟” ويقرران مصاحبته للخروج، في سيارة والده العتيقة جدًا.

 

تصوّر الكاميرا بزاوية علوية أسدي قصر النيل والسيارة تمر في الشارع الخالي نسبيًا، والهواء صافٍ، وابتسامة تفرض نفسها ببطء على شفتيك.

المقالة السابقةكيف تواجهين شبح إنترفيو Kg1
المقالة القادمةبطاطين مؤجلة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا