الرابعة صباحًا.. أشاهد فيلم Eternal sunshine of the spotless mind، تمتلئ عيناي بالدموع ورأسي بالأفكار، أتحدث مع نفسي وأتذكر ما ضايقني في هذه اللحظة/ طوال اليوم/ بالأمس/ طفولتي/ حياتي السابقة، أذهب للمطبخ وأصنع لنفسي فنجانًا من القهوة، أُخرِج طبق الجبن الرومي من الثلاجة وأتناول شريحة بدون خبز، أتذكر أنني أريد وقف تناول الخبز في محاولة للحد من شراهتي له، ولكني أتذكر أنني أحب الخبز، فأتناول قطعة من الفينو على لقمة واحدة، أصب القهوة وأعود لجلستي أمام الشاشات.
أنا بحاجة للنوم، أتذكر أنني بحاجة إلى ضبط مواعيد نومي لأستطيع الذهاب للتدريب. لكم تضايقت من وجه المدربة الشابة التي تصغرني بنحو 10 أعوام وهي تخبرني مبتسمة ابتسامة صفراء أنه يجب عليّ أن أنام بالليل، أعلم أيتها الصغيرة أنني بحاجة للنوم ليلاً، أنا فقط لا أستطيع. ولكن كيف أنام وأنا أفكر أنني فقدت دائرتي الآمنة وفقاعتي الخاصة.
لا أستطيع حتى الآن التسامح ومواصلة الحياة بعدما فقدت دائرتي الآمنة الأقرب لقلبي منذ فترة طويلة، فقدت الكثير قبلها حتى ظننت أنني اعتدت الفقد، ولكن يبدو أنني لا زلت أتعلق بالأشخاص أكثر مما أظن، وكأن هذا ما كان ينقصني، فقد المزيد من الدعم والأمان والمساحة المريحة للحكي.
منذ صغري اعتدت أن أصنّف من حولي إلى صالحين لحمل أسراري أو لا، كانت الإجابة في أغلب الأوقات “لا”، ربما لأن شخصيتي بالفعل كانت مركّبة منذ الطفولة، والتي يرجعها بعض علماء النفس لكوني طفلة وسطى، لا أعلم. ولكني كنت مؤمنة بأهمية الحكي، ونظرًا لأنه لم يوجد من أحكي له، كنت دائمًا ما أتحدث مع نفسي (بصوتٍ عالٍ أحيانًا) وأتناقش معها وأعطيها آراءً مختلفة.
بدأت في تكوين دوائر أمان كاملة في سنين الكلية، لم أكن أعلم المصطلح بالطبع، ولكن هذا هو ما شعرت به تجاهها، الأمان في الحكي دون الحكم عليّ، ولكن واجهتني مشكلة، كان يتم الحكم عليّ في أمور أخرى لا يستطيعون فهم مشاعري تجاهها. عندها استطعت تكوين صداقات مختلفة، واستطعت بناء دوائر أمان مختلفة ولكل دائرة تخصص، وما أستطيع التعبير عنه بسهولة في الأولى لا يمكنني الإفصاح عنه للثانية.
بهذه الطريقة استطعت أن أحيا حياتي، تغيرت دوائر الأمان والحكي بتغير حالتي الاجتماعية والدراسية والعملية، وبتطوّر شخصيتي واختلافها، تركت دوائر وتركتني مجموعات، ولكن طوال الوقت كان هذا يحدث بشكل طبيعي بما يتناسب مع طبيعة الأمور، وهو حتى غير خاضع لرغبتي وحدي، فاختلاف الظروف من حولنا هو ما يدفع لتغير هذه الدوائر، فنبتعد ولكن نظل أصدقاء جيدين.
ظننت أن هذه هي الطريقة الوحيدة للفقد والابتعاد، أن يكون الأمر جليًّا للجميع وبه حدث واضح، ولكني كنت ساذجة ترى الأمور بقلب طفلة، فأنا لم أفقد هذه الدائرة بسبب أي اختلاف معتاد، بل فقدتها تدريجيًا مثل انسياب الماء من قبضة يدك، تعلم أنه يهرب ولكن لا يوجد شيء في وسعك لوقف هذا، لذا شاهدت الدائرة وهي تبتعد.
بابتعادي عن هذه الدائرة اعتقدت أن الأمر انتهى، سأعيش في بؤس واكتئاب حتى أستطيع بناء واحدة أخرى، ولكن فجأة برزت على السطح دائرة قديمة استطعت الكلام معها بكل سهولة، ظننت أن هذا الأمر كافٍ، ظللت أخبر نفسي أنني غير حزينة على الفقد وأن هذه هي سُنّة الحياة، فالحمد لله لا أقف عارية دون دعم في مواجهة المشكلات، وقد أرسل الله لي الدائرة القديمة تُذكرني بنفسها وبوجودها في حياتي، وأنا بالفعل ممتنة وشاكرة، ولولا وجود الدائرة القديمة لكنت الآن في دائرة اكتئاب شديدة السوء.
ولكن كل هذا لم يمنع أنني بالفعل أشعر بالحزن، من حقي أن أشعر بالحزن لابتعاد كل هذه الابتسامات والحكايات والذكريات، لانهيار دائرتي الآمنة التي شهدت الكثير من انهياراتي الشخصية. لي كامل الحق في الشعور بالوحدة حتى إن لم أكن وحيدة، وفي الشعور بالخوف حتى وإن انتشلتني دائرة أخرى، أعلم أن هذا الوقت المُر سيمر، عليّ فقط أن أتركه ليأخذ كامل وقته معي، فما حدث ليس بالأمر الهيّن، خصوصًا لشخص حسّاس مثلي، يعطي مثل هذه الأمور أهمية بالغة، دائرة الأمان والقدرة على الحكي بحرية، هذه أمور مهمة ما استطعت أن أتجاوز العديد من المشكلات دونها.
ربما لهذا لم أفقد بعد إيماني بأنني سأجد دائمًا دائرة داعمة، لأن الحكي طالما كان له مكانة مهمة، وفور أن بدأت أكوّن دوائري الآمنة ظللت أفعل ذلك، لم أفقد بعد هذا الإيمان وأتمنى من الله ألّا أفقده أبدًا، فقد شاهدت ما فعله اليأس بأخريات فقدن الأمل في العثور على هذه الدوائر، أنا بالفعل ممتنة للدائرة التي ظهرت مجددًا، وكل ما عليّ فعله هو عدم الضغط على نفسي لأُشعر نفسي أن الأمور على ما يرام، وأن أستمر في الحكي.