كامليا
لم تعد لها رغبة في الحديث، وكأنها فقدت شهية الكلام فجأة! وعندها فقط ينتقل الحديث من أطراف فمها لأطراف أصابعها.
للجسد رسائل يرسلها لنا يوميًا، ينبهنا بإشارات نصر على تجاهلها حتى تخور قوانا تمامًا، لماذا نخذل أجسادنا بكل هذا الإصرار
والترصد؟
هناك حيث الملاءات البيضاء، الأراضي المعقمة، غرف الانتظار القاتمة.. تجلس بألوانها الزاهية علّها تضيف بعضًا من روحها للمكان..
تطمئن، تتمتم بكلمات الحمد ثم تعود لتجلس مكانها، للحظة أدركت كم أن حياتها تتلخص في مثل هذه الغرفة، الانتظار.. هي دائمًا في
انتظار شيء ما، شيء ربما يأتي وربما لن يعود، لكنها على كل حال تنتظر، وما بين الحين والآخر تذهب هنا وهناك، تطمئن على هذا
وتُطمئن تلك وتتمتم ببعض الكلمات وتعود.
"اجمدي شوية".. "خليكي قوية".. تستمع لهذه العبارات كل صباح ممن حولها، فتستبدل ثيابها، شحوب وجهها، وتعلق همومها ومشاكلها
الصحية بجانب ملابس المنزل، حتى صارت تتقن وضع مساحيق التجميل خاصتها، الابتسامة التي تزين شفتيها، ونظرة التفاؤل التي لا
تعلم كيف ما زالت تتقن رسمها بعينيها بعد كل ما حدث، وأخيرًا لا تنسى وضع بعض رتوش الرضا على وجنتيها وتذهب.
تعلم جيدًا أن مهمتها في هذا العالم، أصبحت تتخطى وجعها بكثير.. وأنها ربما تكون العصا الأخيرة لبعضهم، ولا يمكنها أن تكن عصا
سليمان، لم تعد تملك تلك الرفاهية، لن تسمح بأن يتكئون عليها فتهوي بهم.
أسابيع مضت كانت ترى الحروف شفافة، لم تجد للكلمات معنى ولم تعرف كيف تبعث إليها ببعض من روحها؛ روحها منهكة للغاية،
المرض لم يترك لها منفذًا للهروب، افتقدتهما بشدة الأيام الماضية، الكلمات وروحها.. كلاهما رحل مؤقتًا لتبقى بمفردها.. كلماتها الوطن
الذي تنتمي إليه، وعندما يرحل عنك الوطن.. حتمًا تضيع.
"اهربي الآن".. قرار الهروب من المرض والروتين والعجز كان قرارًا يوميًا مؤجلاً. كانت تحاول الهروب للصفحات البيضاء، فلا تجد
الحروف، تحاول الهروب للعمل فيكللها الروتين القاتل وغياب الشغف، تحاول الهروب لرياضتها المفضّلة فتخذلها أنفاسها المتقطعة،
ممنوعة هي من مشروبها السحري بأمر الطبيب.
لا تعرف كيف تُظهر ضعفها أمام سندها الوحيد، فتدّعي القوة لأجله ثم تغرق بين ذراعيه، فيعلم كم هي ضعيفة ومنهكة ومحبطة، يحضر
لها حلوى وريحان فتبكي لأن مذاق الأولى يُغيره المرض، والاعتناء بالثانية لم يكن كما ينبغي فذبلت، مثلها تمامًا.. لم تجد سوى طريق
واحد للهروب، تهرب إلى الله ثم إلى نفسها، الله وحده يعلم خبايا روحها، وحده يطمئنها كل ليلة -رغم تقصيرها- ويبشر الصابرين.
"أنا مش قوية يا رب"، هكذا فعلت في النهاية، أفلتت زمام روحها علّها تخفف من ثقلها قليلاً، كفت عن الادّعاء، وقد كان. هي تلك الحالة
التي ترغب فيها بالابتعاد عن كل شيء لتعود لنفسك قليلاً، تُعيد ترتيب كل الفوضى بداخلك، وتفعل ما قد لا يمكنك فعله مستقبلاً، عندما
تقرر أن تكون عادلاً في استخدام وقتك والانتباه لرسائل جسدك المُنهك، أن تُعيد وصل روحك بكل مسببات السعادة والحياة. إن كنتِ
تمرّين بهذه الحالة.. فلا تترددي في الهروب إلى نفسك، ثم جدي الله بداخلك.. تطمئني.