الماراثون الذي لا ينتهي

341

(1)

كنت أجلس في ركن بعيد في قاعة المحاضرات، أقرأ في مرجع علمي ليساعدني على إلقاء العرض الخاص ببحثي في محاضرة اليوم، لأن اليوم لدينا عرض مهم ويجب أن أكون على أهبة الاستعداد، فالدكتورة التي تُدرس لنا المادة تقف على الكلمة، بل تقف على الحرف.

 

كانت القاعة صامتة للغاية، تُغيِّم عليها سحب الرتابة والسكون، فلم يكن قد وصل باقي زملائي بعد، فأنا إما أن أحضر مبكرة عن موعدي، وإما أصل متأخرةً عنه.

ظللت منهمكة في القراءة إلى أن باغتتني قهقهات أنثوية عالية تقترب من القاعة، لأجد فتاتين حديثتا السن تطرقان على باب القاعة، وتستأذناني في الدخول للجلوس برهة، ريثما تنتهيا من شرب النسكافيه بعيدًا عن ضوضاء أروقة قاعات المحاضرات، فوافقت بالطبع بشرط ألا تتكلما بصوت عالٍ.

 

جلستا على مقربة مني، وجدت نفسي أرفع عيني عن الكتاب وأتأملهما، أتأمل تلك الفرحة التي تتراقص في حديثهما، وذلك البريق المتلألئ في أعينهما، إلى أن أشركتني إحداهما في الحديث، فسألتني: “هو حضرتك في سنة كام؟”، فأجبت: “ماجستير. وأنتما؟” قالت إحداهما: “سنة أولى”، وأردفت بابتسامة: “صراحةً نحن لدينا محاضرة الآن، لكن لم نستطع استيعاب كل هذا الكم، فهربنا بحثًا عن ملجأ هادئ يمكننا فيه احتساء النسكافيه على مهل، دون أن يسألنا أحدهم عن آخر ملزمة للدكتور فُلان أو عن كتاب الدكتورة فلانة، أردنا فقط ربع ساعة من النسكافيه”.

 

أيقظ كلامها إحساسًا داخلي أحاول تجاهله وإنكاره منذ مدة، إحساسًا بالاحتياج لربع ساعة مثل هذه، ربع ساعة أحتسى فيها كوبًا من الشاي الساخن في هدوء، دون حديث عن المحاضرات والكتب والمراجع والأبحاث.. ربع ساعة فقط.

 

بدأ زملائي في التوافد، فودعتاني وخرجتا بلطف بحثًا عن مكان آخر أكثر هدوءًا، كنت أود لو أنني غادرت هذه القاعة المظلمة الكئيبة معهما، كنت أود لو أتبعهما إلى حيث تذهبا، وسرحت بخيالي متساءلةً ما أسوأ ما يمكن أن يحدث إذا فوَّتُّ محاضرة اليوم وذهبت إلى مكان هادئ أحتسي فيه الشاي، فتبادر إلى ذهني درجات الحضور والغياب والعرض المهم، فظل جسدي في مكانه بلا حراك، وكأننى مقيدة إلى الكرسي، وعدت إلى واقع قاعة المحاضرات، وغمغمت بكلمات عن المستقبل والدراسة والعمل، وكأنني أُذكِّر نفسي بما يجب فعله، وأستغفر عن خطيئة الرغبة في “التزويغ” من المحاضرة.

 

(2)

نظرت إليّ نظرتها الدافئة المملوءة بالمودة التي لطالما عهدتها منها حين التقيتها، لكني أحسست هذه المرة أنها ممزوجة ببعض الشفقة. بعد السلامات والسؤال عن الأحوال أخبرتني أنه يجب عليّ استخدام أكياس الشاي المستعملة لإزالة الهالات السوداء حول العينين، أو أن أكف فحسب عن السهر ليلاً، أو أن أُخطئ وآخذ إجازة من كل شيء، وإنها تنصحني بهذا كونها صديقتي المقربة التي تخاف على مصلحتي، لأنه إذا ظللت على هذا المنوال سأتحول عما قريب إلى زومبي، شكلاً وموضوعًا، وحينها لن أجد شابًا يحبني، سأظل أو سأتزوج حين أبلغ الثمانين، وضحكتْ بشدة، لكنني لم أشعر بأي رغبة في الضحك، بالـforever alone.

 

أحسست بحاجتي إلى البكاء، وقلت لها: “أتصدقينني إن أخبرتك أنه ليس لديّ حتى الوقت الكافي لتناول الشاي على هيئة أكياس؟ فهي تحتاج إلى وقت لأضبط فيه ثقل الشاي ولونه، فأستعيض عنها بالشاي الكشري، لأنه يمكنني أن أتحكم فيه بسهولة وبسرعة، لقد جئت لمقابلتك لأنني أفتقدك وسأضطر إلى المغادرة بعد ساعة، فاعفيني من محاضراتك هذه”.

 

(3)

ظل الوضع هكذا لفترة ليست بقصيرة، أستيقظ صباحًا، أعد كوبًا سريعًا من الشاي، أرتدي ملابسي وأذهب للمحاضرات أو للمكتبة، أقضي فيها أغلب وقتي وأعود للانتهاء من التكليفات والأبحاث اللازمة، ثم أكتب المقالات الواجب تسليمها هذا الأسبوع تباعًا، آخذ قسطًا قصيرًا من النوم، وأصحو في صباح اليوم التالي لأعيد الكَرَّة، وهلُم جرًّا، إلى أن قرأت عن حملة موقع “نون” المُسماة “سكر برة”، التي تدعو إلى الخروج من عباءة الأيام الرتيبة، والانتفاض على “لهوجة” الحياة السريعة، والوقوف في وجه ماراثون الوقت الذي لا ينتهي، والجلوس بهدوء لبرهة، فقط للاستمتاع بكوب من الشاي سكر برة.

 

أشعرني مضمون الحملة بثِقَل الأيام، وخواء أنكره منذ مدة، وفكرت في آخر مرة تناولت فيها الشاي كما أحب في شرفة منزلي المطلة على البحر، في آخر مرة تمشيت فيها على كورنيش الإسكندرية الجميل واستنشقت هواءه البارد المنعش، فوجدت أن هذا قد حدث منذ مدة طويلة جدًا.

 

أيقنت أن الحياة تسرقنا، تسلبنا أبسط الأشياء متعة وأكثرها صفاءً، تعدنا بمستقبل باهر إذا ما اجتهدنا في العمل، لكن في المقابل تجعلنا ندور في سواقيها، فنشيخ ونحن ما زلنا شبابًا.

 

مضغوطون نحن، يضغطنا مجتمعنا الذى يفرض علينا أن نبذل جهدًا مضاعفًا لنصل إلى الأحلام، يضغطنا المستقبل الضبابي الذي لا نعرف كنهه بعد، يضغطنا طمعنا في النجاح كشباب بشكل عام، والرغبة في إثبات الذات كشابات بشكل خاص، وفي أننا قادرات على أن نكون، أن نستقل، أن نقف في وجه جملة “الست مسيرها لبيتها وجوزها”، أن نثبت أننا نستطيع أن نجمع بين تحقيق النفس والأسرة، تضغطنا رغبتنا في أن يذكرنا الزمان، آلا نمر فيه كأننا لم نكن، ونتناسى في خضم كل هذا أننا نحتاج في بعض الأوقات إلى التوقف عن الركض خلف كل هذا، لنستريح، أن نشحن طاقتنا لمزيد من الإبداع والنجاح، وإلا تسلل لقلوبنا خواء يدفعنا بعيدًا عن أحلامنا، خواء يُثقل الروح ويحيرها، يجعلها في تساؤل مستمر حول فائدة ما نفعله.

 

اليوم قررت أن أتوقف عن الركض، أن أخرج عن هذا الماراثون الذي لا ينتهي، وسأشرب الشاي في مكاني المفضل على الكورنيش، سكر برة.

 

المقالة السابقةالقعدة في البيت ولا الشغل أيهما أفضل؟ هل قعدة البيت مملة!
المقالة القادمةمتى تكسر القواعد مع طفلك؟
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا