بقلم: وفاء مرزوق
لم أشكَّ يومًا أنني شخص يسعى إلى الكَمَاليَّة في كل جانب من جوانب حياته. في عملي يجب أن يسير كل شيء على أكمل وجه، كل المهام يجب أن تُنجز بأدق شكل ممكن، وفي وقتها المحدد -أو قبله في بعض الأحيان-. لدى قائمة مهام واضحة المَعالِم ولها خارطة تنفيذ لا تشوبها شائبة. ودائمًا ما يتردد اسمي في تلك الجملة: (إذا أردت إتمام ذلك المشروع أو تلك المهمة، عليك بإسنادها لفلانة). وبالمثل، حياتي الشخصية، لا مجال للخطأ أو الارتجال أو إتمام الأشياء بشكل غير كامل.
للوهلة الأولى، تبدو تلك النقاط جذابة ولا ضرر بها، فمن الذي لا يرغب في حياة تسير على أكمل وجه؛ وكأن قياسها ضُبط على مسطرة؟ وأنا شخصيًّا كنت أنظر لذلك الجانب المُنير، أني شخص يجيد إتمام المهام وإنجازها على أكمل وجه، وبأدق تفاصيلها. كان ذلك حتى الأسبوع الماضي حينما ذهبت إلى عملي لأكتشف أنني نسيت جهاز “اللاب توب” بالمنزل على الرغم من وضعي له بجوار حقيبة يدي! وأخذت أفكر كيف حدث هذا؟ وكم أستغرق من الوقت للرجوع وإحضاره حتى ألحق بالاجتماع الذي حضرت مبكرًا للتجهيز له! وفي طريق رجوعي أخذ عقلي يقوم بمسح وتحليل لأحداث الصباح؛ لأصل إلى سبب نسياني لجهازي، تلك السابقة التي لم تحدث في حياتي! وأخذت أفكر في ترتيب اليوم بشكل مختلف نتيجة تلك الفقرة غير المُجدوَلَة! وبنهاية اليوم، تملَّكني شعور بالذنب والتقصير، وسؤال: كيف حدث ذلك؟.
وهنا أدركت أنني في مأزق كبير يُسمى (الكَمَاليَّة). ليس بجانبها الجيد، ولكن بجانبها السيء والسيء جدًا. فجانب الكمالية البغيض هو ما يجعلنا نستنكر على أنفسنا الخطأ من الأساس، وإنْ أخطأنا نصبنا لأنفسنا محاكم، ونصَّبنا أنفسنا قُضاة لمحاكمتنا! الكمالية غير المُتَّزنة تستنكر إنسانيتنا وضعفها، وعدم استمراريتها أو محافظتها على نفس المستوى من الأداء كل يوم. هي متطلبة دائمًا للكمال وليس أقل. فنتحول فجأةً إلى جلَّادين لأنفسنا بشعور ذنب لا يُقاوم. ولا يقتصر الأمر علينا، لكنْ على مَن حولنا أيضًا. فكما نطالب أنفسنا بالكمال، نطالب مَن حولنا بنفس الشيء أيضًا، الأمر الذي يكون مُجهدًا في بعض الأوقات، وغير مستطاع في أحيان أخرى! فتدريجيًا نتحول لأشواك لمن حولنا، بدلًا من مكان للقبول.
والسؤال هنا: لماذا نسعى إلى الكمالية؟
هناك ما يشبه الضغط الداخلي، والذي يدفعنا إلى حد الكمالية، قد يكون:
- القيم الداخلية العالية، والتي تُشكِّل توقعات عالية نسعى لتحقيقها.
- الخوف من ارتكاب الأخطاء، والذي قد يؤدي إلى اهتزاز صورتنا أو رفضنا في بعض المواقف.
- العقلية الجامدة؛ وهي التي تميل إلى كل شيء أو لا شيء. وأنَّ خطأ صغيرًا قد يُفسد نجاحًا عظيمًا.
- الاستغراق في التفاصيل، وهو التفكير بشكل مُفرط في النواقص من الأشياء.
- الرغبة في السيطرة، وما يترتب عليه عندما تخرج الأشياء عن السيطرة، أو تكون النتائج غير واضحة.
- الخلط ما بين القيمة الشخصية والإنجاز، فحينما نربط قيمتنا الشخصية بالإنجاز نقع تحت وطأة الكمالية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن السعي إلى التميُّز مُختلف عن الكمالية. في السعي إلى التميُّز تستخدم إمكانياتك ومهاراتك بشكل واعٍ. أما الكمالية فهي أشبه بالهوس المدفوع بالخوف أو بالأنا.
“امتلكْ الشجاعة الكافية لتكون غير كامل” – ألفريد أدلر
لقد خلقنا الله أحرارًا بشكل كامل، فلا يجب أن نكون عبيدًا للكمالية والتي يحركها الخوف، وتغذيها الذات (الأنا)، وتجعلنا أسرى دائراتنا، لا نستطيع رؤية الآخر بإمكانياته وطاقاته وقدراته. وفي الوقت نفسه، لا نرى أنفسنا بالشكل الأصلي لها.
علينا أن ندرب أنفسنا على حديث داخلي إيجابي ليس متعلقًا بما نفعله أو ننجزه، بل بما ما نحن عليه. فجوهر وقيمة وجودنا كامن في داخلنا وليس خارجنا. علينا أن نعيد تقييم منظومتنا الفكرية فيما يتعلق بالقيمة الذاتية والإنجاز، وأن نتعلم كيفية الفصل بينهما. فقيمتي ثابتة حتى في أوقات راحتي، والتي لا أفعل فيها شيئًا، ولا كمال أحققه فيها. علينا أيضًا أن نغفر لأنفسنا إذا أخطأنا في شيء، ولم نُنجزه على أكمل وجه. علينا أن نقبل ما هو أقل من 100%.
واعتقادي هو أننا في احتياج إلى النمو تدريجيًا نحو عُمق إنسانيتنا لندرك استحالة كمالها ونقبلها، فنُرخي قبضتنا عمَّا لا نستطيع السيطرة عليه. ونرحب بأجزاء الحياة غير المكتملة.
المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب.