الصلاة في راس شيطان

460

 

أفكر أن الحياة أوسع كثيرًا من تلك التي نعيشها، أفكر أن من حق الإنسان أن يُجرِّب أكثر من حياة، فالآن وأنا أم مصرية أعمل من لابتوب في منزلي بالجيزة بشكلي الحالي، أتصوَّر كيف سأكون وأنا امرأة أربعينية من الريف الأوروبي تجني التوليب من حقول هولندا؟ أو فيمَ سأقضي يومي وأنا مُتدرِّبة إسبانية في مدرسة لرقص الفلامنكو وبقي على مسابقتي أيام؟ أي زيٍّ سأرتديه وأنا امرأة عجوز في حفل هالوين بدار مسنين بالسويد؟ كيف سأدّخر ثمن زلاجات الجليد قبل الكريسماس في سيلاروندا بإيطاليا؟

 

أفكر في أني لست بشجرة تقضي عمرها في تربة واحدة تحت شمس واحدة، تتجذَّر وتعلو وتتفرع لتزداد هيبتها ارتباطًا بالمكان، وتزداد استحالة نقلها كل يوم، وتخلق بإرادتها روابط بالمكان لا تستطيع الانفكاك منها ولو مؤقتًا.

***

ذات يوم طلبت من أمي السفر لأي مدينة قريبة، فكان جوابها كأي أم مصرية أصيلة “اتجوزي وسافري مع جوزك”. رفضتُ أن أرى الزواج تأشيرة خروج إلى الدنيا، لكن وضعت السفر في قائمة أولويات حياتي، قررت أني لا بد ذات يوم أن أعيش أكثر من حياة.

صادقتُ المسافرين وأدمنت زيارة المطارات ومحطات القطارات. قرأت عن أرخص الرحلات وطرق حجز الفنادق عبر الإنترنت وأفضل الأوقات لزيارة مدن الأحلام.

***

ركبت الطائرة مرة واحدة في رحلة سريعة مع العائلة إلى مدينة دبي، لأُصدَم أنها تخالف كثيرًا ما قرأت عنه وما سمعناه من العائدين وما شاهدناه في الصور، فهي ليست بهذا الإبهار الذي انتظرته، هي كرسمة مطبوعة بجهاز كومبيوتر، كل شيء محكم ومتقن بلا أي احتمال لخطأ بشري، حياة خُطّت بالمسطرة، لذا هي بلا روح أو شخصية، مدينة ممسوخة لا يعرف سكانها متعة الخطأ والتجريب، تسعى لإبهار العالم بصور خاوية الشغف والذكرى.

 

لولا تجربة السفر لبقيَتْ دبي إحدى مدن الأحلام المكتوبة على قائمة أمنياتي.

أصبت بإحباط وتزعزعت رغبتي في حزم الأمتعة من جديد. زهدتُ رفقة الرحالة والقراءة عن عادات الشعوب. لكن صدفةً تزوجت رجلاً يقدر قيمة الترحال، يعرف معنى الحيوات الأخرى ويعشق الجري في الوقت الضائع ليلحق القطار قبل مغادرته الرصيف.

***

سافرت مع زوجي، وسافرت وحيدة، زرنا الإسكندرية ورأيتها كما لو أنها أول زيارة لي، دخلت عشش الصيادين في قرية المكس، التي لم أرها إلا في الأفلام العربية، والتقطت الصور مع الأطفال العاملين على مراكب آبائهم، وجلست على مقهى في محطة الرمل لأكتب مقالاً حلَّ موعد تسليمه. كنت كمُفكِّرة تصمت طويلاً أمام البحر وتراقب التلاميذ صباحًا من خلف زجاج مقهى إيطالي قديم.

***

في رحلة أخرى قضيت أيامًا مع أصدقائي بالإسكندرية أيضًا. قضينا رحلتنا كطلبة جامعيين فروا أخيرًا من سطوة المفروض وكسروا الروتين والمواعيد، بغرض كسرها فقط.

***

زرت متاحف في القاهرة طالما مررت أمامها ولم أعرف بوجودها أصلاً، ونزلت بفنادق وسط البلد، وسهرت بين دخان تبغ نزلائها من كل الجنسيات فوق الأسطح، سافرت حتى داخل القاهرة وعشت كفتاة أوروبية مُغتربة مع “البوي فريند” يتسكعان في شوارع وسط البلد بعد منتصف الليل.

***

قبل أيام سافرنا فجأة إلى مدينة لم أكن أعرف بوجودها على الخريطة أصلاً، تُسمى “راس شيطان”، استكنتُ فيها أمام براح البحر وجلال الجبل، وهددتني الأسماك السامة، وسرت في الصحراء على ضوء القمر لأبتاع زجاجة مياه عذبة، ونمت على الأرض في عشة، أو “خوشة” كما يُطلِق عليها عرب سيناء، جربت العيش كبدوية لمدة ثلاثة أيام، وعدنا إلى القاهرة على طريق تجاوز سبع ساعات قضيتها كدرويش صوفي زَهَد المدن فاعتلى الجبل وسار يبحث عن الله بين الطبيعة.

***

الآن أخطط لرحلتي القادمة إلى النوبة، أو ربما سيوة، ولعلها تكون صلاة فوق جبل موسى بجنوب سيناء، لكن كل ذلك لن يروي ظمأ امرأة مثلي أدمنت الترحال وذاقت حلاوته، فما زلت أحلم بالخروج من حدود الدولة إلى فنجان شاي أمام تلال حقول الشاي بماليزيا، وصورة سيلفي داخل أحد قصور غرناطة بإسبانيا، وشرب سموزي الفواكه وأنا أراقب رقص الدلافين مع رفيقي وزوجي على شاطئ كيب بوينت في جنوب إفريقيا. أحلم برقصة في المعبد الذهبي بالساري الهندي في دويتو رائع لي ولطفلتي لمَّا تتمكن من استشعار الموسيقى أكثر.

***

قديمًا قالوا:

سافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد.

لكن أعتقد في أن السفر فيه ما هو أكثر من ذلك، في السفر حياة الإنسان، فقد استحق العيش بأكثر من طريقة. سافر ففي السفر سُكَّر الحياة، الذي ندَّخر ثمنه من متع أخرى، في الحقيقة هي أقل أهمية مما نظن.

فسافر.. لأن الحياة لا تُحتَسى مُرّة.

المقالة السابقةوقفة سكون لأجل مشاهدة “فتيات آل جلمور”
المقالة القادمةأنتِ أملك الوحيد

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا