الرقص أفيون الشعوب

564

 

(1)

إن كانت الموسيقى غذاءً للروح، تسمو به فوق الماديات وتُخلِّص الأرواح من شوائب الواقع وأوجاعه، فيحق لأرواحنا ألا تحلق وحيدة.. فليصحبها الجسد، فالمتعة تكبر إن تقاسمها الرفاق، ولنصعد بالجسد مع الروح علينا بالرقص.

نرقص فننفض عن أجسادنا أوجاعها.. نظرات الناس.. خلافات مستنزِفة.. إرهاقًا يلي إرهاقًا وخذلانًا تلو الخذلان، كل ذاك لا ينفضه عنا شيء بقدر ما ينفضه الرقص.

نرقص فنسمو فوق الحزن.. الظلم.. الذكريات الموجعة.

نرقص فتتغلف نفوسنا بهالة نسيم قوية فلا تخترقها هموم جديدة.

العلاج بالرقص منه يقرأ المعالِج ما يدور في دواخلنا، يقرأ قدر شعورنا بالحرية، ثورتنا، صفاءنا، قدرتنا على التعبير، على التغيير، استعدادنا لنفض الأوجاع، صراحتنا… من يخجلون عن الرقص يخجلون عن قراءة دواخلهم، ففي الرقص توحد الروح مع الجسد.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة.. فالرقص حياة.

 

(2)

في القرن الرابع عشر الميلادي انتشرت ظاهرة في أوروبا عرفت بـ”هوس الرقص” فجأة يبدأ أحدهم بالرقص في الشارع.. شخص عادي ليس مجذوبًا أو أبله، يرقص دون سابق إنذار.. الغريب أن الناس لم تستغربه ولا ترفضه، بل كانت تتبعه في الرقص، عشرات الناس ترقص رقصة جماعية في الشارع دون سبب مفهوم، وربما يصل الأمر لمئات بل لآلاف البشر يرقصون في وقت واحد  حد الانهيار من التعب.

انضم الموسيقيون للجماعات الراقصة بقصد تخفيف الحالة وإنقاذهم من السقوط إرهاقًا، لكن الموسيقى شجعت عددًا أكبر للانضمام للراقصين، وتفشى أكثر ما عرف بـ”طاعون الرقص”.

حتى الآن لم يتوصل الباحثون إلى تفسير الظاهرة التي توالى تكرارها على مدار ثلاثة قرون، لكن افترض البعض أن طوائف دينية أو سحرة وراء الظاهرة لتخليص الناس من التفكير في الفقر والإجهاد، أو ربما سقطات الساسة واحتكار التجار.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة.. فالرقص خلاص.

 

(3)

بل قولي إن الرقص عبادة.. ألم تري الشيخ الصوفي يدور راقصًا بالتنورة بيد مرفوعة إلى السماء والأخرى نحو الأرض؟ الأولى يستجلب بها الخير من السماوات والأخرى يرش بها هذا الخير على الناس.. يدور كما تدور الكواكب سابحة في ملكوت الله.. يدور ليرسم هالة تبدأ وتنتهي عند نفس النقطة كفيزياء الكون كله.. يدور حتى يصبح مركزًا لدائرته.. يرقص فيجذب النور من السماء ويلقط هِبات الرب المعلقة في الجو من الذنوب، ويصبح نافذة على العالم الحقيقي، مباركًا، ملجئًا للناس يرفع الأدعية فتنزل الإجابة.

كان الأفارقة قديمًا يرقصون صلاةً لجلب المطر أو الدعاء بالحماية، ويرقصون بالأسلحة لاستعراض القوة أمام القبائل المعادية.

في الهند ترقص الفتيات في المعابد تقربًا للآلهة بحركات تعبيرية عن منح الآلهة.. الشمس وخصوبة الأرض والبحر وحكمة الحكماء.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة.. فالرقص صلاة.

 

(4)

في القرن الماضي افتتحت “ماريان جاس” مدرسة للرقص، إيمانًا منها بأثر الرقص على معنويات طلابها، أحدثت ماريان ضجة في المجتمع الطبي حتى أن الأطباء النفسيين أرسلوا مرضاهم لمدرسة ماريان، والنتيجة أدّت بماريان إلى أن تصبح أول رئيس للجمعية الأمريكية للعلاج بالرقص في الستينيات.

ماريان أبدعت في العلاج النفسي، فأهدت لكل منا روشتة يمكنها تنفيذها بمجرد تذكر لحن يمس شغاف قلبها.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة.. فالرقص شفاء.

 

(5)

الرقص خلق في الأصل لنفض الوجع، لمواجهة الخذلان، للخروج من إحباطات العالم وسد ثقوب الخيبات والسقوط.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة لفقد عزيز، لغدر حبيب، لتوديع حلم.. قفي على حواف الأحلام الضائعة وودعيها برقصة تنفض وجع الرحيل عن قلبك لتبدئي من جديد.. هللي للفرح المحتمل وقابليه بحضن مفتوح.. ورقصة.

حينما تصلي إلى خطوط النهايات ارقصي رقصة الانتصار، وارقصي حتى تتعرقي فتخرج الخيبات مع قطرات العرق والذكريات المؤلمة وشوك الطريق. وارقصي حتى تشعري بالدوار فتتناثر الظلمات من داخل قلبك فينبض بالنور.

 

أبدعي في استقبال الحزن وقابليه برقصة عفوية دون قيود باللحن المفروض. اخلقي لحنك الخاص داخل رأسك واتبعيه، باغتي الحزن بحفل راقص مهيب يحرجه فيتعثر في خطوه نحوك.

إن تحتم عليكِ السير في طريق ما غير محبب لروحك، فاجعلي خطواتك فوقه راقصة، ارقصي رغم زحام الطريق وشمسه الحارقة، ارقصي رغم نظرات العالم؛ ربما مع إصرار رقصاتك تخرج الموسيقى من حيث لا تدري لتساند رقصتك، وتنتزعي البسمة من شفاه المحدقين وتخرسي المنتقدين.

فارقصي بأقصى ما استطعتِ من الحياة فالرقص إجلال.

 

مصادر: اضغط هنا  و هنا ايضا  وهنا

 

 

المقالة السابقةتفيد بإيه يا ندم؟!
المقالة القادمةأجمل هدايا للأم بمناسبة الولادة: 10 هدايا غير تقليدية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا