الجانب الروحي للـ”دلع”

647

نظرت إلى ما تبقى من نقود في محفظتي بعد يوم حافل من الشوبينج الذي أنفقت فيه تقريبًا كل ما أملك، عدا ما يكفي للعودة إلى المنزل، بدون أن أجوب الشوارع متطفلة على الغرباء قائلةً ساعدني بالله عليك. عدت إلى منزلي سعيدة جدًا بحجم الحقائب التي أحملها، برائحة العطر الجديد، ولون أحمر الشفاه الذي ادّخرت له جزءًا من مرتبي شهريًا منذ شهرين أو ثلاثة، فرِحة بالقميص الجديد، والجينز الذي سأستعيض به عن ذاك الذي اعتبرته أمى يصلح لخرقة جديدة، لكن في ظل كل هذه الأفراح والليالي الملاح، طلت خاطرة تؤرق وجداني، وهي إنني لا زلت لا أشعر بالراحة.

 

كان السبب الرئيسي في خروجي مع صديقتي للشوبينج هو اقتراب ميعاد امتحانات الترم الأخير في سنة تمهيدي الماجستير، والتي سيعقُبها التحضير للرسالة، والأمر بمثابة عملة ذات وجهين، فمن ناحية، الأمر بمثابة انفراجة لسلسلة طويلة من المحاضرات الطويلة والأيام الشاقة والامتحانات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، ومن ناحية أخرى، هو بمثابة بداية لتحدٍ جديد ومُرهِق، تكمن راحته الوحيدة في اتساع الوقت المتاح لتحضير الرسالة، ولأنني لم أخرج منذ مدة طويلة لأشتري حاجيات كانت تلزمني لارتفاع الأسعار الجنوني، أخبرتني صديقتي أن ننتهز خصومات أسبوع العيد، لنحقق أكبر قدر ممكن من الغنائم.

 

لكني كنت ما زلت أشعر أن ثمة شيئًا ناقصًا، شيء ينغز في قلبي، لا يبارح رأسي ولا أستطيع التخلُص منه، كأنه وخز ضمير يخبرني أنني لا يجب أن أستمتع، أو أن أقضي وقتًا طيبًا، لأن هناك ما ينتظرني لأفعله، وهو حقًا الكثير، ومع تكالب الهواجس وتوطن الخوف في روحي من الإخفاق، لم يعد لأحمر الشفاه الجديد والعطر المميز والملابس الجديدة أي طعم حقيقي، كأنني كنت أستمتع بنصف عقل أو بنصف بال، أو كأنني كنت جسدًا دون عقل، فعقلي في مكان، وجسدي يُجرِب آخر عطر من متجر مزايا.

 

في نفس اليوم، كان من المفترض أن تعرض قناتي المفضلة “ميكي” فيلم الرسوم المتحركة “بيبي بوص”، والذي كان سيُعرض للمرة الأولى على التليفزيون، فأصرت أختي الصغرى أن نشاهده معًا في جو سينمائي جدًا، ذلك بعد أن لاحظت حزني غير المبرر وشرودي المستمر في التفكير في كل ما يقع على عاتقي ولا ينتهي أبدًا، فأطفأت الأنوار، وأعدت طبقًا كبيرًا من الفشار، وأجلستني عنوة لمشاهدته، برغم عدم قدرتي على فعل أي شيء.

 

شيئًا فشيئًا، تناسيت كليًا همومي، وضحكت من أعماق قلبي، وتابعت الفيلم بانتباه وتركيز شديدين، نسيت معهما أحاسيسي المتناقضة، وخوفي، وتأنيب ضميري على أني أمضيت يومًا كاملاً في “تدليع” نفسي بدلاً من الاستعداد للاختبارات، ونمت مباشرةً بعد انتهاء الفيلم في سلام، لأستيقظ صباح اليوم التالي مستعدة ومقبلة على الكتب والمراجع التي كنت أشعر بالإرهاق والخوف من مجرد رؤيتها، فانبثق في عقلي سؤالاً مهمًا، لماذا نهتم دائمًا بالجانب المادي فقط للدلع؟!

 

تحتاج كل امرأة فينا من حين لآخر لأن تنفض الهم من فوق كتفيها، لأن تترك نفسها تستمتع ببعض الوقت لذاتها دون أن تحمل هم وخز الضمير لاستمتاعها بهذا الوقت، وهو ما لا يحدث دائمًا بشراء الميكب الجديد أو الملابس أو الذهاب إلى سبا لأخذ حمام مغربي، فرغم أن هذا كله مفيد فعلاً في الاسترخاء والإحساس بالسعادة وتدليع الذات، لكنه لا يكفي، فالإحساس بالضغوط لا يتوقف إلا إذا قررتِ من داخلك أن توقفيه فعلاً، وإذا اقتنعتي أن من حق نفسك عليكِ أن تسمحي لها ببعض الوقت المنفرد لممارسة أنشطة في غاية البساطة، تقودك فعلاً إلى الإحساس بالسلام النفسي.

 

كوب الشاي بلبن مع بسكويت لوكس على أنغام فيروز دون سماع كلمة ماما كل ثانية تقريبًا هو تدليع للنفس. الاهتمام برعاية تكعيبة عنب صغيرة في شرفة المنزل هو تدليع للنفس. محاولة ممارسة اليوجا لأول مرة والضحك على عدم قدرتك على التمدد مثل تلك الفتاة الحلزونية في فيديو “اليوجا للمبتدئين” على اليوتيوب حتى تتقني هذا التمدد، هو تدليع للنفس. قراءة روايتك المفضلة أو مشاهدة فيلم جديد كنت تتمنين مشاهدته في جو شبه سينمائي بالمنزل هو تدليع للنفس. طلبك من شريكك أن يأخذ الأطفال في نزهة ريثما تجلسين في صمت دون أي ضوضاء في منزل خالٍ من المكعبات الصغيرة الواقعة على الأرض، والتي تنغرس في قدمك فتشعرك بإصابات المحاربين القدامى هو تدليع للتفس. أن تقرري أن يكون الغداء هو جبن وبطيخ في نهار حار من شهر أغسطس بدلاً من الوقوف في المطبخ لساعات طويلة يمكن أن تستعيضي فيها عن الطبخ باللهو مع أطفالك هو تدليع للتفس. اختيارك ليوم تكفين فيه عن القلق الدائم من كل وأي شيء، تأخذين فيه قسطًا من الراحة النفسية، وتتوقفين عن الجري اللاهث وراء كل شيء يجب ألا تفعليه فقط، بل أن تتميه على أكمل وجه من وجهة نظرك، أن توقفي الزمن وتأخذي نفسًا، كل هذا تدليع للنفس.. لكنه تدليع روحي.

 

معظمنا يغرق في الماديات، ربما لأن طابع عصرنا نصب علينا في عداد أعمارنا، جعلنا نشعر أنه كلما أغرقنا النفس في الإحساس بالدلع كان هذا موازيًا في تحقيق رفاهيتها، ولا بأس في هذا، لكنه بتدقيق النظر للأمور ستكتشفين أن الأمر أكثر عمقًا من هذا، وأن تحقيق احتياجك للسلام النفسي كل فترة وطردك للوخز الخفيف الذي يصيبك كلما حاولتِ فعل شيء تجدين فيه راحتك النفسية بعيدًا عن معتركات الحياة اليومية هو أفضل طرق تدليع الذات.

المقالة السابقةالروتين مفيهوش سم قاتل.. بالعكس
المقالة القادمةكبرتي كده ليه؟
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا