بقلم/ سمر صبري
لم أمِّل أبدًا من تكرار مشاهدة ذلك الفيلم العبقري The ShawshankRedemption. يحكي الفيلم قصص سجناء في سجن عتيد الحراسة، ومن بين تلك القصص كانت تأسرني دومًا قصة هامشية في أحداث الفيلم، لذلك العجوز “بروكس” الذي لم يتحمل الحياة خارج أسوار السجن بعد انتهاء مدة حبسه، فيقرر الانتحار.
لم تكن الملامح الطيبة للعجوز هي التي تأسرني، ولا ذلك الإسقاط بأن الاعتياد مؤذٍ وقاتل، أو أنه أمر مُرَّكب للدرجة التي قد تدفع المرء لاعتياد مكان موحش كالسجن. لكن ما كان يأسرني حقًا في قصة “بروكس” جملته التي نقشها على جدران غرفته قبل الانتحار: Brooks Was Here، وكأنه عزَّ عليه أن يفارق العالم دون إشارة أخيرة لوجوده.
في صباح يوم جمعة استيقظت وأنا في حالة هدوء، رغم أنني خلدت إلى النوم مثقلة بهموم جثمت على صدري، وجعلته يتآكل من فرط الاضطراب. بدا لي الأمر غريبًا أن أستيقظ في صفاء ذهن رغم أن شيئًا لم يُحل في ساعات الليل. لم أفتش كثيرًا عن السبب، واقتنعت أن لحظات كتلك هي نفحات رحمة إلهية، وسكون يهدينا الله إياه من باب لطفه بعباده المُثقلين. استرجعت في ذهني ذلك المثل التراثي “تبات نار.. تصبح رماد”، فأيقنت أن أول دورات تنمية بشرية قدمتها لنا ربات البيوت البسيطات بأمثالهن الشعبية، التي تفوق في حكمتها كل دورات التنمية البشرية.
مزاج رائق نسبيًا يعني بلا شك أن أهرع للكتابة، جفتني الكلمات لأسابيع طويلة، ويبدو أنها تصالحني الآن، طالما أحببت تلك الفكرة.. أن أعود سليمة الصدر بعد جفاء مؤقت، سواء للكتابة أو لأشخاص في حياتي، لكنه أمر ليس هينًا على أي حال مع الكتابة، وموجع إلى حد كبير مع الأشخاص، وإن كان يعكس مكانة متفردة لهم في القلب.
عن أي شيء أكتب؟
عنها بلا شك.. الكتابة في حد ذاتها جديرة بالكتابة، عن حبي لها. لا لأنها تساعد المرء على التحرر مما يثقل صدره، ولكن لأنها وسيلة للتواصل بين البشر بشأن أفكارهم ومشاعرهم. فالكتابة فعل إنساني بحت قبل أن تكون فعلاً فنيًا، ووسيلة لأن تقدم نفسك للعالم، وأن تتعرف على الآخرين بكتاباتهم، حتى وإن لم يحدث بينكم لقاء على أرض الواقع، نلتقي بكتاباتنا في عالم جميل من الحروف الناقلة للخبرات.
الكتابة هي الطريقة التي تتماس بها خبرات وتجارب البشر، فتعرف بقراءة ما كتبه غيرك أنك لست وحدك فيما تواجه، تخبرك تلك الحروف أن على هذه الأرض مَن اختبر ما تعايشه، فتحصل على دعم معنوي بشكل غير مباشر، بعدما كنت تظن أنك الوحيد الذي تصارع تجربة ما تزعجك.
تأكدت لي أفكاري بشأن سحر الكتابة وأنا أقرأ رسائل كافكا إلى ميلينا مؤخرًا، ذلك الكاتب التشيكي وتلك المترجمة التي كانت تترجم أعماله الأدبية من الألمانية لغة أدبه، إلى التشيكية. ثمة شجن جميل كان يعتصر قلبي في كل خطاب أقرؤه منه إليها. أفتح خطابـًا جديدًا وكأنني أنتقل إلى عصر آخر، أذوب مع شخوصه وأحداثه، ومن فرط التأثر أشعر كما لو أني أوشك على البكاء.. كل تلك المشاعر.. كل تلك التفاصيل.. كل تلك الأماكن والأحداث وأبطالها انتهوا، انتهى وقت وجودهم في الدنيا، لكنهم بقوا معنا.. بقوا بالكتابة.
لذلك أحب الكتابة لأنها وسيلة بقاء، تُنبِت لك الكتابة جذرًا ثابتًا في الأرض، تفنى أنت ويبقى الجذر، حتى وإن لم يكن المرء أديبًا مثل كافكا، تكفيه كتاباته البسيطة جدًا لتحييه بين أحبابه. أراجع خطابات أبي لأمي في شبابهما.. خطابات أصدقائي في طفولتنا.. أو حتى مذكراتي الساذجة وأنا مراهقة، فأتيقن من أن الكتابة وسيلة للإمساك بلحظات لتخلدها للأبد بالحروف، أما أن تكتب أنت ما قد يمس غيرك لتمد خيوط إنسانيتك للتشابك مع خيوط إنسانيته، فهو ما قال عنه يوسف إدريس: “أن تؤلف كتابًا، أن يقتنيه غريب في مدينة غريبة، أن يختلج قلبه لسطر يشبه حياته.. ذلك هو مجد الكتابة”.
لماذا أحب الكتابة؟
سألت نفسي وبادرت بالرد فورًا: لأخبر عالمي الصغير بشأني، أنا التي تجيد الإنصات وتفشل في التعبير عن نفسها بالكلام، تنصفني دومًا الكتابة، تغنيني تدوينة صغيرة عن الحكي لساعات، وإن كان الكلام يتطاير في الهواء بعد قصِّه، فالكتابة ثابتة، توثق وتؤرشف مشاعرنا وتجاربنا وخبراتنا. إن لم نكتب فمن سيخبرنا عن دهشة السفر ولقاء ناس جديدة والتعرف على ثقافات مغايرة؟ بأي وسيلة غير الكتابة يمكن أن ندوِّن هزائمنا الشخصية، تلك التجارب التي طالت أبعد نقطة في قلوبنا وسددت لنا طعنة مباشرة فيها؟
ماذا عن كل تلك المشاعر التي مررنا بها من السقوط حتى استعادة التوازن؟ ماذا غير الكتابة يمكننا من خلاله التعبير عن نقاط التحول الوضاءة التي تتحول فيها انكساراتنا إلى انتصارات، حينما نختار الوقوف على أرجلنا من جديد ونعاود الصمود؟ ماذا غير الكتابة يمكن أن يخبرنا عن بهجة لقاء الأحباب ومرارة وداعهم، والتعرف على العالم للمرة الأولى دونهم، وعودة الألوان للعالم مرة أخرى بعودتهم، أو بطولة الاستمرار دونهم.. الخذلان من عزيز.. الاندهاش من مساندة آخِر مَن يتوقع المرء منه المساعدة.. الحماس وقت انتظار فرحة مرتقبة، أو تلك الليالي الطويلة التي ذابت فيها أعيننا من البكاء لنستيقظ بعدها نزيل بقايا الدموع ونواجه العالم والناس وكأن شيئًا لم يكن، وتلك الليالي التي تمنينا من فرط جمالها “لو طال فيها الليل شوية” كما تمنى سيد مكاوي، تلك التجارب التي أفقدتنا الثقة في الناس، وهؤلاء الذين يجددون دومًا الثقة بداخلنا أن هذه الأرض ما زالت تحمل الطيبين؟ كل تلك الخبرات والمواقف والمشاعر مَن سيخبرنا عنها سوى الكتابة.. سوى التوثيق بالحروف للحظات الفرح الماجنة وأوقات الحزن القاسية؟
لذلك أكتب، ولذلك أحب قراءة ما كتبه غيري، للتواصل مع إنسانيتي، ولأنني أخاف دومًا من عبارة درويش: “تُنسى كأنك لم تكن”، وأرى الكتابة فعل مقاومة ضد النسيان.
أحب الكتابة، وأحب مشهد “بروكس” حينما أخبرنا بكلماته المنقوشة على الجدران أنه مَّر من هنا، وأنا مثلك يا “بروكس” حروفي وسيلتي لأبلغ عالمي الصغير أنني مررت على هذه الأرض، وأن هنا كانت لي حياة وكان لي أحباب، وهنا عايشت خبرات ومشاعر إن انقضت يبقى منها ما دوَّنته عنها.