البرنيطة الفوشيا VS النظارة السوداء

643

 

 

 

بدأ الأمر معي ببوست بسيط على فيسبوك أُعلن به لأصدقائي وأشجع به نفسي كذلك كوني سأنزل اليوم مرتديه “برنيطة رأسي ذات اللون الفوشيا” لكون درجة الحرارة مرتفعة جدًا اليوم، قد تصل إلى ٤٣ كما تقول الأرصاد، بينما يهمس لي هاتفي إنها قد وصلت إلى 45 بنجاح منقطع النظير!

 

في كوكب أفضل وحياة أكثر حنانًا لكنت امتنعت من النزول من المنزل، ولكن -للأسف- لديَّ كثيرًا من المشاوير العائلية الصباحية التي يصعب التملص منها، فكان القرار فيه من الاضطرار أكثر منه للرفاهية، وعليه ارتديت ملابس ذات طابع رياضي أكثر من كونها كلاسيكية، مريحة أكثر من كونها شيك، لتحتوي تحركاتي الكثيرة بقدر أقل من التأفف، وبالتأكيد توَّج كل هذا “البرنيطة الفوشيا” ذات القُطر الكبير والقادرة عن درأ الشمس عن وجهي بشكل مرضي إلى حد كبير تبعًا للظروف الراهنة.

منذ أمد طويل شاهدت فيلم “big daddy” لفناني المفضل adam sandler، حيث تورط في دور الأبوة لطفل صغير يعاني مما يعاني منه الأطفال بسنه من حرج بالعلن وأمام الناس وشقاوة مفرطة بالمنزل، وكان الفيلم يدور عن تحول شخصية البطل من شخص مستهتر يقدس حريته إلى رجل يستمتع بدور الأبوة، لكن ما أتذكره جدًا عندما نصح البطل متلبسًا دوره الأبوي هذا الطفل كعلاج لخجله وخوفه من العامة أن يرتدي نظارة شمسية، وأقنعه أنه عندما يرتدي هذه النظارة الشمسية السحرية يصبح غير مرئي تمامًا، وكانت هذه الخطة ممتازة، حيث تحول الطفل من طفل خجول إلى طفل يتحرك بالعلن تبعًا لشخصيته وليس من نابعًا إحراجه وخوفه من حكم الآخرين عليه.

 

وعليه.. اقتبست هذه النظرية منذ مراهقتي، ومنذ ذلك الحين صارت النظارة الشمسية عنصرًا أساسيًا لرحلاتي الصباحية لما كانت تبعثه في نفسي كمراهقة خجولة يصعب إقناعها كونها غير مرئية، ولكن يكفيها ثقة كون من يراها لا يرى أين تنظر، وعليه تستطيع أن تعبر عن غضبها وحنقها مثلما تشاء، وبمجرد أن كسر بداخلي حاجز التعبير الأول عن غضبي أو حنقي حتى تتابعت التعبيرات وكان من الطبيعي بعد انتهاج هذه الخطة البسيطة أن تراني أتورط في مشادات كلامية مع من اخترقوا حاجز الأدب معي، بكلمات سخيفة تهينني نفسيًا وجسديًا.

عليه كان من الطبيعي أن أرتدي برنيطتي الفوشيا ونظارتي السوداء بهذه الرحلة التي كنت أعلم يقينًا كونها ستضحى مرهقة بعض الشيء، لكن الأولويات هي ما تحكمنا معظم الوقت مع الأسف، وعليه كانت المفاضلة بين راحتي الجسدية وحمايتي من الشمس تأتي أولوية بالتأكيد أمام اختيار ملابس مناسبة لاسترضاء الجموع الغفيرة.

بدأت الرحلة حقيقة عندما نزلت من منزلي مرتديه تلك الملابس التي ارتديتها كثيرًا بالسابق دون أن توصمني بهذا العدد الملاحظ من المعاكسات اللفظية، والتي تتمحور على البرنيطة، أو بالأصح كان المحفز الأساسي لها هو البرنيطة. بالبدء أصابني الأمر بالضيق رغم كونه متوقعًا، ولكن على ما يبدو أن عقلي الواعي كان أشيك من الواقع المتعفن، فتفاجأت دون قرار مسبق بهذا الوضع المضمحل من العقول التي تسكن شوارعنا العامرة.

كنت دومًا أتساءل عن السبب الحقيقي الذي قد يدفع متحرشًا للتحرش، كمحاوله مني لاتخاذ عذر أخلاقي، ما يجعلني أتقبله كإنسان معي على وجه الكوكب، رغم اختلافي معه فكريًا، لكن حقيقة الأمر كون هذه الكائنات لا تتحرش بنا، كوننا نرتدي ما يلفت انتباههم  دومًا، ولكن صار تحرشهم من باب التسلية لا أكثر ولا أقل، وبالمعظم لإثبات كونه ذكرًا فعَّالاً وقويًا لمجموعة من أصدقائه (فعادة ما يتحرك ذكر المتحرش في جماعات لتحقق له العزوة، في حين قررت إحدى الإناث ضربه بالشبشب).

أصبت بحالة من القرف، بينما حاول عقلي الباطن تهوين الأمر عليَّ، وقررت أن أتلبس دور فتاة تمر بدراسة ميدانية مرتدية “برنيطة فوشيا ونظارة سوداء”، فقد سبقني فتيات جميلات وفعلنها بفساتين من حقبة الستينيات والسبعينيات بشوارع وسط البلد، وقد أصابتني جرأتهم هذه بفخر كبير وشعور بالحرية، وعليه قررت أن أكون بطلة هذا البحث الميداني الذي سيرصد تغيرنا كشعب بسيط يقدر الجمال ويحترمه إلى شعب يمقته ويهينه من باب التسلية.

كان باليوم لقطات إيجابية وأخرى سلبية.. السلبي متوقع من تحرشات لفظية بها من خفة الظل ما يؤلم معدتك ويثير غثيانك بثوانٍ، وتحرشات أخرى قوامها دعوة لممارسة الجنس مع المتلفظ  بدون سبب واضح! ومنها أن ينطق الموظف المسؤول عن إنجاز أوراقي فور رؤيتي بـ”استغفر الله العظيم.. هو يوم اسود!”، رغم كوني بادرته بالسلام والتحية والابتسام، ولكن فليكن! بينما كان هناك بعض الإيجابيات التي لاحظتها من فتيات مثلي حاولن توفير كرسي لي بجانبهن، بينما أثنين على برنيطتي ذات اللون الجميل وعلى شجاعتي لارتدائها، وسواق تاكس كنت أظنه متحرشًا لكونه كان يقف بجانبي ويعرض خدمة التوصيل دون أن يكون بحوزته التاكسي، ولكنه أصر قائلاً “إنتي زي أختي اديني دقايق أجيب التاكس وأجيلك”، وفعلها حقًا وانتشلني من سيل من السخافات، وزاد لطفًا عندما قرر أن يشغل المكيف ليرحمني من الحرارة الحارقة بالخارج.

 

نعم كان يومًا مختلفًا على بساطته، وقد كانت نتيجة البحث الميداني كالتالي: نحن نسير للهاوية من سيئ لأسوأ بما يتعلق بالأخلاق والإنسانيات، والمصيبة الأكبر كون هذا الانحلال والتردي بالذوق العام لا يمكن إخضاعه لعمليات القياس، وعليه ستظل علامات هذا التردي مفاجئهة وقاسية جدًا، ولكن بقعة الضوء الحقيقية ستظل بالبشر الذين لم يلوثوا بعد، والذين أتمنى جديا أن لا تلوث قلوبهم كمصريين بهم من الشهامة ما تغنوا عنه سابقًا ولم ننل منه كجيل حالي سوى القليل مع الأسف.

 

 

قد تصل إلى ٤٣ كما تقول الأرصاد

 

المقالة السابقةأشهر 10 مخاوف عند الأطفال وكيفية التعامل معها
المقالة القادمةخمس خطوات للوصول لـ”كود الرجولة”

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا