لما كنت بشتغل مدربة بناء شخصية للأطفال، كنت بحس أد إيه أنا بقوم بدور كبير في حياتهم، وكان عندي يقين إن حتى الأطفال اللي بقابلهم قليل أو بشوفهم مرة واحدة ممكن أسيب فيهم تأثير إيجابي يفرق معاهم طول العمر. كنت مستحضرة ده جوايا ومستشعراه، وده كان شيء بيديني طاقة وحماس هايلين، كانوا بيخلوني معظم الوقت أتقن شغلي وأعمله وأنا مبسوطة وأطوّر نفسي فيه. وكنت بقول في نفسي: يا سلام على الأمهات! دول بيقوموا بدور عظيم، بيصنعوا الإنسان، يقدروا يصنعوا شخصيات عظيمة، وبيعلّموا ولادهم القيم والأخلاق، وهم أكتر ناس بيؤثروا فيهم، وكنت بحس بشوق إني أكون أم عشان أقوم بالدور العظيم ده.
ومرت السنين..
وبقيت أم.
بس للأسف أوقات كتير مش ببقى قادرة أحس إني بقوم بدور عظيم، ولا قادرة أستشعر إني بصنع الإنسان والكلام الكبير اللي كنت بقوله لنفسي ده. الموضوع أصله مش سهل، ومش دايمًا ممتع، لكن الإعلانات وأغلفة الكتب صدّرتلنا صورة غير واقعية عن الأمومة، زي صورة الأم اللي قاعدة على كرسي هزاز، وفي إيديها كتاب بتقراه وهي مبتسمة، وطفلها قاعد على الأرض جنبها بيلعب في هدوء وهي بتمسح على راسه.. أو مشهد الأم وهي بتجري ورا طفلها وهو بالبامبرز وهم الاتنين في منتهى السعادة، هو آه ممكن يكون في منتهى السعادة لأنه حر وخفيف، لكن هي غالبًا في منتهى الغيظ عشان خايفة ياخد برد أو عاوزة تلبّسه من غير صراعات عشان تروح تشوف اللي وراها.
التحدي التاني في الأمومة إنها مش سريعة المردود، يعني مش هدخل الأوضة معايا العدة بتاعتي أقعد أصنع الإنسان وأغرس شوية القيم والأخلاق وأخرج. مش ببقى قادرة أتخيل إني بصنع الإنسان وأنا بصحى الصبح أحضّر الفطار، وبأكل، وبغيّر، وبلم اللعب المتنطورة في الشقة، وبنظف البيت عشان متاكلش أي حاجة من الأرض، وبستحمل عياط، وبجري أشيل الشباشب والجزم من إيديها والورق من بقها، وبلعب ألعاب ساعات بالنسبة لي بتبقى مملة ومكررة، وبلاقي ساعة أكتب فيها بالعافية. على فكرة أنا عارفة إن كل اللي بعمله ده مهم وهيفرق في شخصيتها، وأقدر أقدم الأسباب المنطقية والعلمية، بس أنا عارفة ده بعقلي مش بقلبي، عارفاه لكن لسه مش قادرة أحسه لدرجة اليقين.
بحب بنتي طبعًا، وبتوحشني وهي نايمة كمان لدرجة إنها لو طولت في النوم شوية بقعد أسأل نفسي “هي هتصحى إمتى؟” وأول أما تصحى أقول “هي ليه منامتش شوية زيادة؟” وأفضل جزء كبير من الوقت مستنية إنها تنام. وفي بعض الأيام بحس إني بهرب من القعدة معاها بشتى الطرق: شغل البيت، الواتساب، الفيسبوك، الكلام في التليفون، أي حاجة.
ودي حاجات بتحسسني بالذنب، بقول لنفسي: أنا أم سيئة، أنا مش مقدرة النعمة اللي ربنا ادّهالي وناس كتير بيتمنوها. بخاف إني منتفعش بالعلم اللي اتعلمته في التربية والصحة النفسية، بخاف أكون الحاضر الغائب في حياة بنتي، بخاف أهملها فتكبر حاسة إنها مش مهمة ومش محبوبة، مش عاوزة أسيئلها وأكون مصدر تعاستها في الحياة.
والمشكلة إني لما بدخل في الحالة دي بتمادى في بعدي عنها، الشيء اللي بدوره بيغذي فكرة إني أم سيئة ومشاعر الذنب والخوف عندي، فأبعد، وهكذا. في الوقت ده، مش ببقى عاوزة أتكلم مع حد، لا في اللي مضايقني ولا في أي موضوع أصلاً، ومش ببقى عاوزة أشوف حد، ومش عاوزة أسمع نصيحة من حد، مش عاوزة أقرأ، مش عاوزة أكتب، مش عاوزة أطبخ، مش عاوزة أعمل أي حاجة غير إني أفضل قاعدة على الكنبة وماسكة الموبايل. وفجأة بحس إن نفسي اتسدت عن كل حاجة، وبانعدام المعنى لأي حاجة حلوة بعملها، وببتدي أستدعي كل الحاجات اللي مضايقاني، وكل عيوبي، وكل مخاوفي.
غالبًا ببقى عاوزة “شمس” تنام عشان أقعد أكتب، فمش عارفة هل أنا مدمنة للشغل لأنه من المساحات في حياتي اللي بحس فيها بالتميّز والاستمتاع اللي بينسوني أي مشاكل، ولا أنا طماعة وعاوزة مزيد من الفلوس فعاوزة أقعد أكتب، ولا أنا شغوفة بشغلي وبحبه؟ أنا معنديش شك إني شغوفة بشغلي ككاتبة، بس هل الموضوع ممكن يكون جنبه إدمان أو طمع؟ مش عارفة.
ساعات بفكر إن يمكن لو لقيت وقت أكتب لحد ما أشبع وأتوقف أنا عن الكتابة عشان خرّجت كل اللي جوايا مش عشان “شمس” صحيت، ساعات بفكر إنه لو ده حصل يمكن أبقى راضية وأقدر أستمتع أكتر بوقتي معاها. وساعات بفكر إن المشكلة في الملل اللي بيعمي قلبي عن أي حاجة مبهجة في حياتي. من مشاكلي إني لا أجيد الترويح عن نفسي، معرفش ممكن أعمل إيه في يومي غير القراءة والكتابة وشغل البيت والقعدة مع “شمس” أو القعدة على النت.
لسه معنديش حلول، يمكن لأني ما زلت في دايرة الصراع بحاول أفهم مصدر المشكلة وأكتشف نفسي، لكن فيه كام حاجة كده أخدت بالي منها وهجربها إن شاء الله المرة الجاية اللي هدخل فيها في الصراع ده:
– لاحظت إن من أكتر الحاجات اللي بتفيدني إني لما بلاقي نفسي بدأت أخرج من الحالة دي مبقعدش أؤنب نفسي (ودي حاجة غريبة ومفرحة بالنسبة لي).
– عاوزة أفكر نفسي إن التربية عاملة زي الزرعة بنفضل نسقي فيها، نسقي فيها لحد ما في يوم أخيرًا تبدأ تنبّت.
– أفتكر إن صور الكتب ومشاهد الإعلانات لا تمثل واقع الأمومة بالكامل، آه فيه أوقات هكون مستمتعة وعاوزة الزمن يقف عندها (وده بالفعل بيحصل، زي لما بتبقى في حضني أو بتضحك من قلبها على لعبي معاها أو تبصّلي وتبتسم)، وفيه أوقات هكون زهقانة ومضغوطة وتعبانة. هحاول أستمتع لما أكون مبسوطة وأتقبل نفسي -من غير إحساس بالذنب- وأنا زهقانة.
– هحاول أروّح عن نفسي وأعمل توازن أكبر في حياتي بين احتياجات روحي وعقلي وجسمي.
– هحاول أبطّل قلق وتفكير زيادة عن اللزوم، وأفتكر إن العبد في التفكير والرب في التدبير.
مش قصدي من المقال ده أقدملكم صورة سوداوية عن الأمومة أو أنقلكم طاقة سلبية، لكن من الحاجات اللي بتخفف عني فعلاً إني ألاقي حد بيشاركني نفس الضغوط والمشاعر، فلعل كلامي يونس الأمهات الشقيانات.
فهل يا ترى يا أمهات بتشاركوني نفس صراعي مع الأمومة؟ وبتتصرفوا فيه إزاي؟