إلى المُحلِّقين بلا أجنحة: لا تفعلوا

892

لم تكن استجابتي، قبل خمس سنوات، لإلحاح القدر، بالاقتران بآخر، أكثر من جرعة تأثُر زائدة، كتلك التي خلّفتها مقولة كمقولة الفيلسوف الروماني شيشرون: “ما كان لإنسان أن يستمتع باكتشاف مُتع ومباهج الكون كلها -حتى لو كان في الجنة- إذا لم يكن لديه شريك يتقاسم معه المباهج”، حينما سقطت على مسامع المحيطين به -آنذاك- دون سابق إنذار.

حينها لم يخترقني سهم الحب من أول نظرة، ولم تحدثني نفسي مُجبرة: أن يا فتاة انتبهي لقطار العمر الذي أصبحتِ في المحطة الـ24 منه. لكنه كان القدر، الذي تواطأ مع إلحاح أمي وأبي الكبيرين عليّ، بضرورة التفكير في الأمر، معلنًا إنهاء فترة اللا انتماء إلى شيء.

جلست حينها، أطالع انعكاس صورتي في مرآة هاتفه، متعجبة من صوت رغبتي الواضح في البقاء وغمر بذور جديدة للحديث كلما جفت أخرى، رغم تحفظاتي التي رحت أنثرها مع رزاز عطري على المنضدة من أمامه دون حرج.

شيء عتيد غريب الوقع، كان يجذبني إلى الكرسي كلما هممت للقيام، شعور بالانتماء إلى هذا الحيز من الكون بالذات، وكأن النادل حين سكب في كأسي قبسًا من الماء، دسَّ فيه فيضًا من الأمان.

كنت أعلم يقينًا، أن الجالس أمامي ليس ذا الرجل الرومانسي الحالم، متوهج العاطفة، رقيق الحس، الذي من كثرة تخيله صرت أعرفه، غير أن رقبته الطويلة لم تدلني يومًا على رأس أستبين من خلالها ملامح وجهه.

لكن ثمة شيئًا ما في وقاره أغراني بالبقاء أكثر، كذلك ساعدتُه مسحة من الطيبة كانت تعلو محياه، وكأن ملاكًا قد قبّله -قبل دقائق- من ذي الموضع بالذات، ورغم حديثه الرسمي عن المستقبل والطموح، بدأت أضواء المكان الخافتة ترتدي جوربَي فنان، لترسما قوسًا من البهجة على أهدابه.

كان يشيح بعينيه بعيدًا كلما تحدث أو في جلسته اعتدل، كأنه يتحاشى شررًا ما على وشك أن يُولد، أو ربما يجاهد للبقاء آمنًا في حصن العقلانية خاصته، الذي يحمي كلاهما الآخر، محددًا وصادقًا إلى حد أصابني بالربكة، هذا الغريب الذي لم يمر على معرفتي به أكثر من أسبوع، يقول: “أنا شايف إنك حد مناسب جدًا ليَّ، عشان كده فاتحتك في الارتباط الرسمي بشكل مباشر”، ونسي تمامًا أن يخبرني بالشيء الأهم حينها -من وجهة نظري- أنه معجب بي مثلاً! أو ربما يحبني.. كفى الله الشر!

انتهى لقاؤنا الأول ودوائر الحيرة تتكاثر حولي، كل يوم أكثر فأكثر، حتى حينما هاتفني ملهوفًا وقال: “أنا حاسس إني بحبك”، ظل على حاله بالنسبة لي، لغزًا كبيرًا، ورغم خلو حديثه في كل مرة بعدها، من أي حديث عن العاطفة، لكنني كنت أظل جامدة في مقعدي مطمئنة، أطالع ظلال الحلم في عينيه الدافئتين بلا حراك.

حالت واقعيته دون سقوطي ضحية أساطير الخطوبة الحالمة، كان لا يَعِد إلا بما يستطع فعله، لا يبالغ في وصف مشاعره ولو على سبيل الهزل، والأهم من هذا وذاك، لم يخبرني كذبًا قط.

صرت أعرف -بلا شك- أنه الأمان، هذا الشعور الأخَّاذ الذي كنت أفتش عنه في غيابه، كرضيع شريد كلما استشعرت وحدة أو قسوة.

 الآن وبعد مضي ثلاث سنوات نتلحَّف فيها السقف ذاته، أنا مَدينة لهذا الرائع الطويل، بكل موقف، ارتأته عاطفتي الردارية كارثة، تستلزم توقف الحياة، بينما حملتني أجنحة واقعيته المسؤولة إلى البر الآخر آمنه، بعيدًا عن بطش مشاعري وجيوشها الهمجية.

 تحدثني ظنوني كثيرًا، بأنني لم أُصَب بخيبات كبيرة بعد الزواج ككثيرات ممن أعرفهن وتفزعني قصصهن، لأن واقعية شريكي الرائع الطويل قطعت كل الطرق على الأكاذيب والخيالات العميقة، التي عادة ما ترافق تلك المرحلة. وأعيد السؤال على ظنوني مرارًا وتكرارًا: إذا كانت عاطفتي الفياضة هي مكمن رغبتي في التحليق، فكيف كان لي الطيران بلا أجنحة؟! 

أذكر قديمًا أنني سألته مازحة: “لو عندي شغل كتير ومحتاجة أعمل الغدا هتساعدني في ترتيب البيت مثلاً؟” فرد بملامح واضحة: “هبقى بضحك عليكي لو قلتلك إني بعرف في شغل البيت، لكن ممكن ببساطة نطلب أكل من برة وتسيبي كل حاجة، المهم تخلصي شغلك الأول”، وقد كان، اليوم بينما أهم لإنهاء أكثر من مهمة مؤجَلة لديَّ، يجلس على بُعد خطوات مني يلعب مع صغيرنا، يحثّه على الهدوء، غاض الطرف عن الغداء الذي لم يُعَد بعد.. مرددًا في ثبات: “مش هنتغدى إلا لما تخلصي شغلك الأول يا ماما نونو”.

في حقيقة الأمر.. ما من موقف أثبتَ فيه زوجي “العقلاني”، الرائع، أنه جدير بحبي إلا وشردت للحظة: كيف كانت الحياة لتمضي بي لو أن القدر المُلِح كان قد ألحَّ عليَّ بآخر، يمطرني بسيل من الرومانسية -مثلما ظننت يومًا أنني أريد- بينما لم يفِ بوعوده، لم تعرف كلماته سبيلاً للصدق، لم يعرف سلوكه هيئة الثقة.

 ربما حوّلتني وقتها الحياة من امرأة لم تجد غضاضة تُذكَر في ترك زوجها وصديقته بالسينما يشاهدان فيلم “نادي الرجال السري” لتعود إلى صغيرها مسرعة، إلى المسكينة “هاجر/ غادة عادل” زوجة “أدهم/ كريم عبد العزيز” التي لم تهدِها 10 سنوات من الزواج إلى بر أوحد للأمان، فكانت النتيجة أن أوهماها خوفها وقلقها بأن السبيل الأوحد للثقة هو تقبيح “أدهم” بوضعه في ملابس أضعاف قياسه، وإفساده بأسوأ رائحة عطر، ومراقبته طوال الوقت، لتظن أن الأمور تحت السيطرة تمامًا، بينما يعرف “حِيرم/ بيومي فؤاد” دومًا طريقًا خلفيًا لتسليمه لـ”فريدة/ نسرين طافش”!

الحقيقة أن الشك لم يساورني للحظة فى أن تلك الـ”هاجر”، ما هي إلا ضحية لاختياراتها، ربما ساقتها الأقدار لشخص لم يكن من المفترض أن تكون معه، فقط لأنها تركت العنان لخيالها أن يتولى زمام الأمر.

في الحياة الزوجية، أنتِ في حاجة لحبيب، تكنين له المشاعر، وصديق لا تجدين حرجًا في مصارحته بكوارثك كلها، وقبل هذا وذاك، أنتِ بحاجة لرجل عطوف، راجح العقل يتحمل تقلباتك المزاجية بوعي، ويغفر زلاتك كأب، يعفو ويصفح، دون حتى أن يدرك أن ما فعله عفو وصفح، هو يفعل بحكم الفطرة، فقط لأنكِ صغيرته، وحري بالصغيرة أن تدلل بلا كلل.

 كيف كانت الحياة لو أن القدر ألحَّ عليَّ بآخر رومانسي لم يفِ بوعوده

المقالة السابقةشفتي رامي مالِك يا مصر!
المقالة القادمةخواطر عالقة
منى وهدان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا