أيام الفوضى الخلاّقة.. الجميلة

679

من بين صفحات كتابه، ذائع الصيت، “فن اللا مبالاة” وجدت” مارك مانسون” يُنبّهني شخصيًا أن يا ست منى: “عندما تهتمين بأشياء أكثر عددًا مما يجب، وعندما تهتمين بكل شيء وبكل شخص، فسوف تشعرين بأن من حقك أن تكوني مرتاحة، سعيدة، وبأن كل شيء ينبغي أن يكون مثلما تريدينه تمامًا، لكن هذه حالة مرضية وسوف تأكُلكِ حية، سترين في كل نزاع معك ظلمًا واقعًا عليكِ، وسترين في كل تحدٍ فشلاً لك، وفي كل إزعاج إهانة شخصية، وفي كل اختلاف خيانة، ستكونين محصورة داخل جدران رثائك لنفسك، ضمن جحيم على قياس رأسك، ليس وقوده شيء غير تبجحك بنفسك وما تظنين أنكِ تستحقينه، جحيم يكرر ويعيد تلك الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها في حركة مستمرة، لا تصل بكِ إلى أي مكان”.

 

اعتدلت في جلستي ملدوغة، كمن تحسسه الطبيب من موضع ألم، وحدّثته بصوت مسموع، رنّ صداه في أذن المرآة من أمامي: أن يا سيد مارك.. ماذا لو أن المبالاة أكثر مما يجب، هي فطرة فيك، لا مجرد طبع خبيث أورثتك إياه -بشكل عابر- الأيام؟ أنت تصف فطرتي وتبعات اقتيادها لي، فهل سمعت يومًا بنهر أُعيد رسم مجراه؟ وإن حاولتُ أن أتحدى الفطرة وأفعل، تُرى هل يستريح السيل في رحلته الجديدة فيروي بسعادة كل ما يراه؟

 

فُطرت في هذه الحياة، على طبيعة لست أكرهها، لكني رغم مضي عمر من الرحلة لم أتكيف معها بعد، أُبالي بكل شيء، وأي شيء، أهتم أكثر مما يجب بالتفاصيل، أتعب عليها، أرويها من يقيني في النجاة من السقوط مللاً أو تقصيرًا، أريد أن أُتم عملي الموسوم بالعراقيل على الوجه الأكمل دون إخفاق يذكر، لأعود إلى منزلي، الذي سقيته قبل خروجي من نظاميتي وهندامي، فأنزع عن أرضه خطايا الثمرات الميتة، وأدفن بين متعلقاته بذورًا جديدة للنظافة والألق، حتى إذا ما توسد إحدى زواياه، صغيري المُنظَف، المُعَطر بعد طول اتساخ، وجدها على الحالة التي ترضيني وإن لم تعرف سبيلاً إلى رضاه ورضا أبيه، الذي لم يستطع يومًا التفرقة بين ما هو فوضوي ومهندم؛ الاثنان لا يثيران فيه أكثر من التكيف سريعًا.

 

لذلك ولأسباب لا يمكن لهذي المساحة المحدودة إنصافها بالسرد، كانت الاستجابة لتنبيه “مارك” ضرورة، لا مجرد تفاعل واعٍ مع نص واقعي، أكثر مما يجب، وكانت هذه أول مرة أُقرر فيها بملء مبالاتي ألا أبالي.

 

استيقظت في الصباح الباكر، وبينما تهم ذرات الدفء للرحيل عن الفراش سريعًا، كنت أفكر: من أين تبدأ اللا مبالاة يا ترى؟! هل بعدم الاهتمام بأمر الفراش، الذي اعتدت ترتيبه بمجرد الصحو، والهرولة ككرة خلف جدول مهامي المنزلية، الذي يحمل بين خاناته كل يوم شيئًا أو أكثر جديدًا. وقبل أن تدور دوامة المبالاة وتعلو أصوات تروسها في رأسي، قررت ألا أخطط لشيء، وأن أترك الأمور على سجيتها، تفعل بي وبنفسها ما يحلو لكلينا.

 

الحقيقة أنني بعيدًا عن تفاصيل تلك الأيام الفوضوية الثلاثة، اكتشفت في نفسي قدرات لم أتخيل يومًا أن لديَّ مثلها، كالسرعة في التهام الكتب قراءة، والتمتع بشهية غذائية ذات حس انتقائي مميز، والقدرة غير المحدودة في الاستمتاع بالصخب، بعد طول هدوء: صخب الأشياء المتراكمة يمينًا ويسارًا أينما وجهت وجهي.

ولأول مرة أجد متعة في تجدد الأشياء بداخلي، بينما الأشياء من حولي على حالها، لا يزيدها مرور الوقت إلا مزيدًا من الفوضى.

 

اختبرت ذلك الشعور النادر لحب الذات والاستجابة لرغباتها، دون حسبان للوقت الذي قد تستنزفه هذه الرغبات، بينما تمضي ككرة النار لا تقنع بغير الاحتراق، وإيثار النظام والنظافة والنجاح والتحقق الملموس عليها. استعرت ذلك الشعور الشهي الذي يستأثر به زوجي في المرور بالأحذية والجوارب والوسائد وبقايا دمى صغيرنا المفترشة للأرض دون اكتراث، وتمكنت شهيتي من التهام شطيرة البيتزا دون أن يساورها هذا الشعور المستفز بضرورة تنظيف المايكرويف وتهويته كي يظل مستعدًا لاستقبال قادم جديد، واستطاعت قدماي أن تحملاني بعيدًا عن الحمام الغارق في مياهه بعد ُدش ساخن، تفيض أبخرته برائحة اللافندر الأخَّاذة، دون رغبة تذكر في الأخذ بيده ناجيًا بعد ساعتين من الغرق.

 

أما ما هالني حقًا، هو وقع تلك الغفوة الهانئة، التي رحت فيها بعد احتساء كوب من الشاي بالحليب الدافئ، خلال مشاهدتي لمسلسل Devorce، الذي تتمرد الأمور فيه على السيطرة كتمردي على الاهتمام الشديد والمبالاة بكل ما يسكن ويدور من حولي.

 

دون تعاطف يذكر مع هيئة الفراش المزرية، كعربيد مغشي عليه في إحدى طرقات الليل، أو شفقة عابرة بهيئة دُرج الشرابات، الذي يحاكي شعر ذلك العربيد الأشعث. غطيت في نوم عميق، ولم يزعجني ذلك الضجيج، الذي أحدثه صوت ارتطام الأواني المتسخة بحوض المطبخ، بينما يحاول زوجي -غير المبالي- البحث عن وعاء الشوربة خاصته، مرددًا: “يا سلام يا نونو لو تريحي نفسك كده على طول! وأهو الواحد يرتاح من العتاب كل شوية على آثار الخطوة على الأرض”.

 

توسدت في تلك الليالي الثلاث، راحة لم تدلني إليها يومًا تلك الأطنان من المبالاة والاهتمام والتركيز، وأورثتني تلك الراحة، رغبة مُلحة في تكرار التجربة العام القادم، بعد ما قررت أن أطلق على تلك الثلاث الرائعات: أيام الفوضى الخلاقة.. الجميلة.

المقالة السابقةخرجت من البيبان
المقالة القادمةلقد كان عامًا مليئًا بـ”لأول مرة”
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا