تقول لي الطبيبة التي تعمل فترتين في اليوم لتعيل أطفالها، معلّقة على كلام إحدى الممرضات لها: “شفتي السيستر قالت إيه على لبسي؟ أنا قلتلك الجيبة دي مش بتاعة شغل”. أحاول إفهامها أن التنورة جميلة فعلًا، وأنها محترمة وملائمة لارتدائها في مستشفى دولي مرموق. لم تكترث لكلامي وواصلت الحنق ولوي شفتيها تعبيرًا عن الامتعاض المتجذّر.
تمشي ذات الطبيبة في المركز التجاري، وتسارع خطوتها: اتأخرنا جدًا! خمس دقايق بحالها؟ وأحاول إفهامها أن خمس دقائق في مواعيد المصريين لا شيء، وهي لا تستمع إليّ. تتوتر ويرتفع ضغطها ويصيبها صداع مفاجئ جرّاء محاولتها مدّ خطاويها للحاق بالباص، فقط لنجد ألا أحدًا هناك، وأننا أول الواصلين. يستمر الصداع في الدّق حتى بعد أن تجولنا قليلًا. تؤمن هي أنها غير جديرة بالانتظار لأجلها، ولو لخمس دقائق.
طبيبة من النوع المجدّ في دراسته وعمله. أيام الكلية انضمت إلى الجماعة الإسلامية قبل أن يتحوّل نشاط تلك الأخيرة إلى تفجير الناس. صارت مترو أنفاق لا يذهب يمنة أو يسرة، ولا يتعطل بانقطاع الكهرباء لوجود مولدات احتياطية تعمل دائمًا. لا رحلات، لا مجموعات دراسة، لا سينما، لا تسكّع في روكسي بعد العصر أو الكوربة ليلًا أو كوبري قصر النيل عند انتصاف الليل. لا معارض ورود في الربيع أو مشاهدة زينة شوارع الزمالك قرب الكريسماس أو معرض الكتاب في أواخر يناير. عَملت مباشرة بعد التخرّج، أيام التعيين المجيدة، ولم تنل راحة لسنة واحدة حتى شارفت على الستين.
بَنَت لنفسها مجدًا وسُمعة طيّبة، يأتي إليها المرضى من المحافظات القريبة، ولا يمانعون من السفر. لم تحقق إمبراطورية مادية لأن الحياة في مصر بلاعة نقود مفتوحة دومًا، والتضخم يلتهم أي زيادة في المرّتب. رغم ذلك كله، ما زالت تستمع لرأي الآخرين، وتأخذ بكلامهم مقدّمًا على كلامها وما تريده هي. عند أول عريس طرق بابهم ولم تبلغ بناتها العشرين من العمر بعد، استشارت كل أقاربها، فحضروا عند الزيارة الأولى.
غار زوجها من سلوكها، فدعا كل أقاربه ليحضروا الزيارة الثانية. فكانت النتيجة أن “انجعص” الجميع على الولد المسكين وأبيه، وأثقلوا كاهله بمطالب مادية غير محتملة، فذهب بلا رجعة. خرج الكل منتصرين من الجلستين، عدا الولد الذي لام أهله لأنهم ليسوا أكثر غِنى، والبنت التي أرادته حقًا، لكنها غير مسموح لها بالكلام وإبداء الرأي. كل هذا والأم تهزّ رأسها في موافقة تامة على ما يُقال.
أظن أن الأصل يعود إلى التربية. جملة مثل “اللي يمشي على الأصول ميتعبش” التي تتردد في كل الأفلام، والتي شكّلت وعي جيل الستينيات على الأخص، جيل الرئيس القائد الأعظم، ثم جيل السبعينيات، حيث الرئيس الأب الذي لا يخطئ، حتى لو صافح مغتصبي أرضه وابتسم في وجوههم وعاهدهم على عدم المساس بهم وهم ما زالوا على أرضه. جيل تقديس الأبوين وجعل كلامهم وآرائهم تمشي على رقبة الأبناء، ماحيًا أي شخصية لهم، مزيلًا أي نبتة أو بادرة استقلال. التربية التي جعلت جملًا مثل “أنا أكبر منك وأعرف مصلحتك أكتر منك” أو “يا ابني خد من خبرتي، إنت لسه صغير” أو “أنا أمك، أنا أفهم عنك، إنتي تسكتي خالص” مقدّسة ومحفوظة عند كل الآباء والأمهات. التربية التي جعلت “يا خبر! الناس تقول عليّ إيه؟!” بدلًا من “*** الناس ع اللي يتشددلهم، أنا أعمل اللي شايفه صح”.
ثقافة مثل هذه تجعل من الصعب جدًا الإبداع، تجعل من المستحيل الخروج عن القالب، تجعل كل همّ الشباب إرضاء الكبار، الذين أخذوا حظهم وزيادة في هذه الدنيا، ولم يغيّروا شيئًا، بل زادوا الأمر وحلًا حتى وصل الأذنين.
حسنًا، هاك معلومة تصدمك أيها المجتمع العفن: لقد قمنا بثورة، عليكم أولًا، جيل سرقة كل شيء، جيل ابتلعنا في دوّامة حياة لا نريدها، بانحناءة ظهر دائمة، وخشية من تعليقاتكم. اذهبوا إلى الجحيم بتعليقاتكم وترصّدكم لكل صغيرة وكبيرة نقوم بها، وكل تفصيلة تتعلق بحياتنا. لا أريد ارتداء ملابس كالتي يتّزي بها الجميع، تبًا لشموليتكم الدينية. لا أريد الإنجاب فور الزواج، تبًا لتبريركم مشاركة حياة شخص آخر في الرباط المقدّس بوهم إنتاج آخرين وتقديمهم لهذا العالم المختل. لا أريد وضع نقود في يد أمين الشرطة ليمزّق المخالفة التي استحققتها، أو لم أفعل، فقط لن انضم إلى المنظومة.
لن تدرك الطبيبة ما تفعله بنفسها وبالآخرين، ستظلّ تعليقات الممرضات والأطباء المحيطين بها في العمل هي المحددة لما ترتديه ولما تأكله ولمن تحادثه. ستظل تمشي بجوار الحائط آملة في اختراقه ليبتلعها ويخفيها عن أعين الناس، غير قادرة على الهروب منهم. ستظل تحتمي بالسقف المتهالك للأصول ومعايير الصح والخطأ التي اعتادت عليها، ولا ترى الثقوب العملاقة التي ينفذ منها المطر كلما اكفهرّت السماء. فقط آمل أن يكبر الأبناء عالمين بفساد المنظومة كلها، وراغبين في تغيير للأفضل، وعالم أقل وحْلًا يورثونه الجيل الآتي بعدهم.