اضطراب كرب ما بعد الصدمة وعلاقته بتبلد المشاعر

16511

عندما يمر الإنسان بحدث صادم فإنه يعاني مما يسمى باضطراب كرب ما بعد الصدمة Post-traumatic stress disorder PTSD. في هذا المقال، نتناول أعراض هذا الاضطراب والأحوال الضرورية لطلب المساعدة، وتوقيت ظهور الأعراض وأسباب اختلافها وحِدتها من شخص لآخر.

ما هو اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟

تعرف د. نعمات علي (الطبيبة النفسية)، الحدث الصادم بأنه حدث مؤلم حاد مفاجئ، يهدد حياة الإنسان أو حياة من يهتم بهم، أو يتسبب لهم في إصابات خطيرة. قد يكون الحدث بفعل الطبيعة كالكوارث الطبيعية، أو بفعل البشر كالحوادث والاغتصاب الزواجي والعنف المنزلي والتحرش والتعذيب. والأحداث الصادمة التي تقع بفعل البشر يكون تأثيرها أقوى من الأحداث التي تقع بفعل الطبيعة. والشخص يصاب بالصدمة نتيجة مروره بالأحداث الصادمة، أو نتيجة مشاهدتها، أو العلم بأنها وقعت لأحد المقربين من العائلة أو الأصدقاء.

لما بنمر بأزمة ومش بنعرف نهضمهما، بتقف في زورنا وهو ده كرب ما بعد الصدمة

ما هي أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟

تختلف أعراض كرب ما بعد الصدمة من إنسان لآخر، لكنها تشترك في أنها تسبب للشخص مشكلات في العمل والعلاقات والدراسة. يشبه د. أوسم وصفي، (استشاري الطب النفسي ومؤسس مؤسسة الحياة للمساندة والتعافي)، الصدمة قائلاً: “لما بنمر بأزمة ومش بنعرف نهضمها، بتقف في زورنا، وهو ده كرب ما بعد الصدمة”. وتتمثل الأعراض الرئيسية لكرب ما بعد الصدمة في المجموعات التالية:

1. إعادة اختبار ما حدث Re-experiencing

العرَض الرئيسي لاضطراب كرب ما بعد الصدمة هو إعادة اختبار ما حدث وكأنه يحدث الآن، عن طريق:

  • الكوابيس. أما الأحلام التي لا تقلق منام الشخص فهي طريقة طبيعية وصحية لهضم الأحداث.
  • الذكريات الاقتحامية Flashbacks: وهي ذكريات مؤلمة ومتكررة وغير مرغوب فيها للحدث الصادم، بمشاهده وروائحه وأصواته والإحساسات الجسدية التي اختبرها الشخص وقتها. لذلك قد يرتجف الشخص أو يعرق أو يشعر بالألم أو الدوار أو الغثيان عندما يتذكر الحادث.

فالذي تعرض لحرب، مثلاً، عندما يسمع صوت طائرة يختبئ تحت السرير كأنه خندق، ويختبر مشاعر كأن طائرة تضرب عليه. والفتاة التي تعرضت لاعتداء من شخص مُدخِّن، فإن رائحة السجائر قد تذكرها بالواقعة كأنها تحدث الآن.

يشرح د. أوسم وصفي الصدمة عن طريق تشبيهها بملعقة لبن البودرة تضعها في كوب ماء. عندما تذوب فهي كالحادث غير الصادم، حدث هام يغير حياتنا، ولكنه يذوب في حياتنا بغير سوء الهضم النفسي والكلكعة. أما الحدث الصادم فهو مثل الكلاكيع التي لا تذوب. عندما تضغط عليها بالملعقة تخرج منها حبيبات اللبن البودرة كأن لم يمسسها ماء. وهذه هي الذكريات الاقتحامية، تغير حياة الشخص ولكنه لم يتمكن بعد من معالجتها نفسيًا. هذا العرَض يظهر عند الأطفال عن طريق الكوابيس وإعادة تمثيل ما حدث أثناء اللعب.

2. سهولة الاستثارة Hyper-arousal

هناك منطقة في المخ تسمى الأميجدالا أو اللوزة، عندما نتعرض لخطر فإنها تجعلنا مستعدين للهروب أو الهجوم أو المقاومة. عندما يتعرض الإنسان لحدث صادم، ترتبك هذه المنطقة من المخ فيصبح الشخص في حالة تأهب دائمة للخطر. وهذا يجعله متوترًا سهل الاستثارة عدوانيًا سريع التهيج والغضب. كما يجعله يشعر بالذعر من أشياء عادية. أيضًا يجد صعوبة في التركيز والاسترخاء والنوم بسبب سهولة الاستثارة التي تجعل نومه خفيفًا ولخوفه من رؤية كوابيس أثناء النوم.

3. التجنب وتبلد المشاعر بعد الصدمة Avoidance and emotional numbness

عندما تعلو الكهرباء فوق الحد المطلوب، فإنها تفصل “وتحصل قفلة”. كذلك الشخص المتعرض لصدمة يصاب بالخدر عاطفي وتبلد المشاعر

عندما تعلو الكهرباء فوق الحد المطلوب، فإنها تفصل “وتحصل قفلة”. كذلك الشخص المتعرض لصدمة، يصاب بالخدر العاطفي وتبلد المشاعر بعد الصدمة، وهو ما يُعَد حيلة دفاعية ضد العرَض السابق. ينظر الشخص إلى الدنيا وكأنه يراها من زجاج مصنفر، فالمدخلات الآتية من العالم الخارجي قاسية، مما يدفع الشخص إلى وضع حاجز بينه وبين هذا العالم.

وهذا يجعله ينعزل عن الناس، ويتوقف عن الاستمتاع بالأشياء التي كان يحبها سابقًا. وقد يلجأ إلى المخدرات لتهدئة شعوره بالألم. كما يقل ذكاؤه وتضطرب ذاكرته، بما في ذلك عدم تذكر الجوانب المهمة من الحدث الصادم. فالشخص يتجنب التفكير في الحدث الصادم، أو الحديث عنه، ويتجنب الأماكن والأشخاص وأي تفاصيل تذكره به. فيتوقف مثلاً عن ارتداء الثوب الذي كان يرتديه وقت الحدث، أو يتجنب السير من الطريق الذي تعرض فيه لحادث السرقة.

4. تغيير المعتقدات

هذه المجموعة تُعد الأخطر، لأنها قد تستمر مع الإنسان باقي عمره. فتغيير المعتقدات يجعل الشخص يستقبل الدنيا بطريقة غير واقعية، ويطور أفكارًا سلبية عن الله وعن نفسه وعن الناس والحياة. فمثلاً يصاب بعقدة من الكلاب لأن كلبًا عضه، أو يعتقد أنه سيئ، وأن الله قاسٍ، أو يتشاءم من المستقبل… إلخ. وربما يدخل في متاهة من الأسئلة التي تُعطِّل تعافيه، كالتساؤل عن سبب وقوع الحدث، وما إذا كان بإمكانه منعه.

هذه المعتقدات السلبية قد تجعل الإنسان يشعر بالذنب والعار والقلق والاكتئاب. وربما يصاب بالأمراض النفسجسمية كالصداع وقرحة المعدة والقيء والغثيان والضعف العام والآلام غير معروفة السبب. أيضًا قد يصاب الشخص بما يطلق عليه Conversion disorder أي أعراض عصبية ليس لها سبب عضوي. فحالة التبلد التي أشرنا إليها سابقًا قد تصيب جسم الشخص كله أو جزءًا منه. على سبيل المثال، تشل يده، لتصبح هذه الإعاقة الجسدية وسيلته للانفصال عن العالم، بالتركيز عليها أو كسب تعاطف الآخرين.

هل كل من يتعرض لحدث صادم لا بد أن يصاب باضطراب كرب ما بعد الصدمة؟

ليس بالضرورة، فتأثير الحدث الصادم، كما توضح د. نعمات علي، يختلف من شخص لآخر بناء على عدة عوامل: كالسن وظروف النشأة والمعيشة والثقافة، والتعرض لأحداث مؤلمة سابقًا، ووجود شبكة دعم، ووجود تاريخ أسري أو شخصي للأمراض النفسية أو العضوية، وحدة الحادث، وتكراره.

وقد يتعرض الشخص لحدث صادم ويصاب بمرض أو اضطراب آخر غير اضطراب كرب ما بعد الصدمة، كالاكتئاب أو القلق. وقد يصاب بأعراض لا تصل إلى درجة المرض. وعدم إصابة الشخص بكرب ما بعد الصدمة لا يقلل من معاناته.

قد يتعرض الإنسان لحدث صادم، ولكن لا تظهر الأعراض إلا بعد مرور شهور أو حتى سنوات. فلماذا؟

هناك عدة احتمالات لكمون الأعراض شهورًا أو سنوات. فربما يفوق ما حدث قدرة الشخص على المواجهة، فينكره أو ينساه ثم يحدث شيء يحيي ذكريات الحادث الصادم وألمه ثانية. وربما لم يكن عنده شبكة دعم وقت وقوع الحادث.

ولذلك فإن كثيرًا ممن تعرضوا لاعتداءات أو عنف يستغرقون فترة طويلة قبل أن يكونوا قادرين على الكلام عن الحدث الصادم. وعادة ما يطلبون المساعدة لأسباب أخرى غير هذا الحدث. وربما لو سُئل أحدهم من قِبل الطبيب إن كان تعرض لحدث صادم، لأجاب بالنفي، وهو غير كاذب. فربما نسي، وربما لا يعرف أن ما تعرض له يعد صادمًا. وبعد الحصول على الدعم المناسب يكون أكثر استعدادًا لتذكر الحدث الصادم والحديث عنه.

وهل يمارس الشخص حياته بشكل طبيعي خلال تلك السنوات؟

د. سامح حجاج (الطبيب النفسي)، يجيب على هذا السؤال، بأنه ربما يبدو أنه يعيش حياته بشكل طبيعي خلال تلك السنوات. والحقيقة أنه يكون متجنبًا بعض جوانب الحياة بصورة غير واعية بسبب الحدث الصادم. فمثلاً يعلن شخص أنه لم يتزوج لأنه لم يجد الشخص المناسب. والحقيقة أنه ربما رأى في طفولته مثلاً والده يضرب والدته، أو رأى والديه في علاقة جنسية في سن صغيرة.

متى تطلب مساعدة متخصصة؟

قد تستمر الأعراض لمدة شهر بعد الحادث، وهذا طبيعي، ولكنها تقل ويعود الشخص لحياته الطبيعية بالتدريج. فمثلًا، لو وجد الشخص نفسه غير قادر على الذهاب للعمل، يمكن تشجيعه على الاستراحة أسبوعًا ثم يُقيِّم الوضع. استمرار الأعراض أكثر من شهر يتطلب استشارة متخصص. على الجانب الآخر، بعض الأعراض تتطلب استشارة فورية، كعدم القدرة على النوم أو تناول الطعام لأكثر من يومين، أو إذا كان الشخص يؤذي نفسه أو غيره، أو كانت لديه أفكار انتحارية.

المقالة السابقةاكتئاب ما بعد الولادة
المقالة القادمةما تحتاجين لمعرفته عن كرب ما بعد الصدمة، الأعراض والعلاج

1 تعليق

  1. Do you mind if I quote a couple of your posts as long as I provide credit and sources back to your webpage? My blog site is in the very same niche as yours and my visitors would truly benefit from some of the information you present here. Please let me know if this okay with you. Many thanks!

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا