لا لم يفت الأوان

1061

التاريخ 2001 في أحد مراكز الصعيد.
تقفز الصغيرة على أطراف أصابعها الرقيقة، في رقصات جميلة لترتمي في حضني وتقول: "ماما.. أنا عاوزة أتعلم أرقص
باليه"، فلا أعرف بماذا أرد. لم يكن الأمر سهلاً أن أحقق لها هذا الحلم رغم بساطته، فلا يوجد في بلدتنا الصغيرة مكان لتعليم
هذا الفن، الفرصة بالفعل غير متاحة وصعبة المنال.
كان حلم ابنتي أن تتعلم الباليه، هذا الفن الراقي الذي كنت أنا أيضًا أعشقه، وكنت أحب أن أتابع برنامجه في التليفزيون
وأشاهد تلك الرقصات الرقيقة والراقصات اللاتي يتحركن بسرعة ورشاقة في خفة ومهارة وجمال بملابسهم المميزة، فتستطيع
أن تعيش معهن دراما راقصة مع موسيقى عذبة وديكور بسيط وجميل وإضاءات مدروسة بعناية، فتأخذك إلى عالم خيالي
جميل مليء بالأحاسيس والمشاعر المختلفة، فترى الراقصات يتحركن كما لو كن بالفعل بجعات جميلات بالقرب من البحيرة.
تطير معهن روحك فتتحد معهن في دراما جميلة وتُشعِرك الموسيقى والحركات مرة بالفرح والاسترخاء ومرة بالفزع
والخوف، تشعر بالسرعة تارة وبالهدوء تارة أخرى، تفرح تقفز تطير وتهبط، تبتسم وتشعر معهن بمعانٍ جميلة من الحب
والجمال والرقي. فترى شفتيك تقول دون أن تدري "ما أجملهن!".
تمر السنين وتكبر الصغيرة لتبلغ واحدًا وعشرين عامًا، وما زال الحلم القديم يداعب خيالها، فيظهر في رسومها واسكتشاتها
ولوحاتها، راقصات باليه رشيقات بالقلم الرصاص وأخريات بالألوان، يتمايلن في شكل جميل وألوان مبهرة، وكأنها تحقق
حلمها في عالمها الخاص على سطح لوحاتها، وكلما رأيت الرسوم أتذكر حلم طفولتها المدفون في أعماقها، وينتابني شعور
بالتقصير كأم تجاه أحلام ابنتي البسيطة.
كنت أحدِّث نفسي أحيانًا، الآن ونحن نسكن في القاهرة هل من الممكن أن تتاح لها الفرصة يومًا لتتعلم فن الباليه؟
ولكني كنت أعرف أن تعلم الباليه يبدأ في سن مبكرة، ما بين الرابعة والثامنة، حتى تتمكن الفتاة من التحكم في جسدها. فكنت
أقول لنفسي: لقد فات الأوان.
وتأتيني المفاجأة، فمن شهور جاءت ابنتي وعلى وجهها فرحة غريبة، فقد وجدت أخيرًا معهدًا لتعليم الباليه للفتيات الكبار،
واستأذنتني في الاشتراك، فما كان مني إلا الموافقة.
ازدادت سعادتي وكأني أجد أخيرًا مخرجًا لشعوري الدائم بالتقصير تجاه أحلام ابنتي الصغيرة.
وبالفعل التحقت بالمعهد والتكاليف ليست كبيرة، مكان التدريب يبعد قليلاً ولكن لا يهم أمام إرادتها القوية وعزيمتها.
كنت ألمح سعادتها في كل مرة عند عودتها من التدريب، وعيناها تلمعان عندما تحكي لي كيف أن المدربة معجبة بأدائها
وتقدمها السريع، وكيف أيضًا تشجعها على الاشتراك في عرض قريب.
ألمح سعادتها وهي تحكي عن الموسيقى العذبة التي تسمعها أثناء التدريب، والتدريبات على الوقفة والحركة، وكيف تعبر
بجسدها عما تسمعه وتحسه من الموسيقى، وتحكي عن فائدة الباليه، وكيف تساعدها التمارين على خلق نوع من الاسترخاء
والهدوء وخفض التوتر والإجهاد، وتقوية عضلات البطن والظهر، أيضًا بدأت تهتم بنوعية أكلها وشربها، ووقفتها وطريقة
مشيها.

أشعر أن التدريبات أعطتها ثقة بالنفس في الخطوة والحركة، فأراها تشعر بكم هي جميلة! تشعر بقيمتها وأنوثتها!
كم أنا سعيدة أن تلمس ابنتي أحد أحلامها في الوقت الذي كنت أعتقد أنه قد فات الأوان!
علمن بناتكن هذا الفن الراقي، الذي يرتقي بالنفس والروح والجسد. فلا.. لم يفت الأوان.

المقالة السابقةإزاي تنظموا المكتبة في خطوات سهلة وممتعة
المقالة القادمةللعلاقات الشخصية تاريخ صلاحية أيضًا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا