ويحسبون أنهم أحسنوا تربيتنا

1731

حين يتلافوا أخطاء آبائهم ويظنون أنهم يحسنون صنعًا.. ثم يمضي العمر ولا يجدون سوى تكرار ما ظنوا أنه خطأ.

نخجل أن نتحدث عن عقوق الآباء.. لأن مشايخ العمة يذكروننا دائمًا ببر الآباء، ولا ينبسون ببنت شفة عن حقوق الأبناء.

الآباء الذين يتخبطون بين ماضيهم مع آبائهم وحاضرهم مع أبنائهم.

يحاولون أن يقرؤوا عن أفضل السبل لتربية طفل معافى نفسيًا، بعد فوات الأوان أو قبله لا يهم، ويقطفون من كل بستان زهرة، يجربون فينا كفئران التجارب خاصتهم، ثم نعذرهم الآن بعد أن تشوهنا كثيرًا.

نعذرهم لأننا لم نعِ المفهوم الحقيقي لعقوق الآباء، ونعيش صراعًا غريبًا مرضيًا قاتلاً، بين أن ندعي أنهم أحسنوا تربيتنا، وأن نخوض صراعًا وتشوهًا داخليًا قد يودي حقيقة بأرواحنا وربما أجسادنا.

أربع سنوات ونصف من العلاج النفسي، لم أقترب ولو خطوة واحدة من الاعتراف بالحقيقة.. حتى أتى ذلك القلب الدافئ، ووجدتني بتلقائية أعترف له أني كنت طفلة سارقة كاذبة معظم الوقت، خائفة، أبلل فراشي بين الحين والآخر، وألوم نفسي على ذلك الوهن والضعف والكُره والقذارة التي تسكنني، كنت أحكي له ليكرهني.. لم أنتظر نتيجة أخرى، لأني أرى نفسي قبيحة قبح العالم، فكيف لمثل هذا القلب الرائع أن يراني من الأساس، كان سهلاً عليَّ أن أحكي له عن قبحي لأني لا أستحق أي جميل.

أخبرته أني كنت أسرق من مال أختى لأن أمي كانت تعطيها مصروفًا أكبر بكثير مني، في الوقت الذي كان مصروفي اليومي لا يكفي سوى لشراء أشياء محددة، لم أفطن بقدراتي المحدودة لأمر الادخار، كأن أوفر مصروف اليوم مع غد وبعد غد كي أشتري حلوى غالية الثمن، كان صعبًا جدًا لطفلة محبة للحلوى أن تتخلى عنها ليومين كاملين حتى تأتي بالأعلى ثمنًا.

كان محرجًا جدًا أن أستيقظ من نومي بسبب دفء الماء تحتي أو رائحته.. كنت أطيل الوقت في الحمام أحاول أن أستوعب لماذا يحدث هذا معي! لماذا أنا ناقصة لهذا الحد؟ يقتلني الخجل من نفسي، لماذا لا أستطيع التحكم في الأمر مثل باقي الأطفال في سني؟

يتم توبيخي فيزيد الأمر سوءًا.. أتوقف عن شرب الماء، لا يقل المرض بمعالجة العرض. توقف الأمر بعد البلوغ دون تدخل من أحد، لكن بعد أن أصبحت كائنًا صامتًا غاضبًا كئيبًا زومبي متحركًا متوسط المستوى الدراسي، لا يميزني أي شيء إطلاقًا.

طفلة ممتلئة الجسد مقارنة بأقرانها.. يتم تذكيرها يوميًا بضرورة الامتناع عن الطعام والحلوى.. كنت أحب العسل واللبن والقشدة والحلاوة.. وحبي لها كان في الغالب نابعًا من حرماني منها.. وذلك لأني لا أقترب منها الآن لا من قريب ولا من بعيد.

لم يكن لديَّ أصدقاء، لم أكن جميلة ولا مميزة ولا اجتماعية، لا أمتلك أي صفة لطيفة تقرب الأطفال مني. أذكر كيف كنت أجلس في آخر الصف وأستكين من بداية اليوم الدراسي لنهايته، حتى في وقت الفسحة أجلس وحيدة، كنت أكره السندوتشات التي أعدها لنفسي كل يوم لأني لم أكن أتقن عملها من الأساس، لم أحب طعم الخبز المهترئ وقطع الجبن المتناثرة حوله.. لماذا لا تعد أمي السندوتشات؟! أو لماذا لم تعلمني كيف أعد السندوتشات بطريقة أفضل؟!

كان عمري اثني عشر عامًا وأفتقر لمقومات الشخصية المميزة، وطبعًا كنت أول من لبست الحجاب فيمن حولي، كنت أستتر خلفه، في الوقت الذي تعرفت فيه على بعض فتيات الحي وكنت ألعب معهم من حين لآخر، واكتشفت حينها عالم المراهقين، كنت أقلد تقليدًا أعمى، وأسأل نفسي لماذا لم أفكر تفكيرًا منطقيًا في تصرفاتي في ذلك الوقت؟ لماذا لم أستطع أن أميز بين الخطأ والصحيح؟ وهل كل المراهقين يفعلون ذلك.. أم أنا فقط لأني غبية بما يكفي ألا أميز؟

لم أجد سوى الورقة والقلم كي أحكي أو أعبر عن أشياء قُوبِلَت بسخرية من البعض.. حتى الكتابة التي أعشقها الآن لم تكن تميزني في الوقت الذي بدأت أكتب فيه.

استخدمت حيلاً دفاعية أشهرها النسيان.. لا أتذكر شيئًا على الإطلاق.. وأقنعت نفسي بذلك ولكنها ظهرت بشكل ما، لأن القلب الدافئ كان يحفزني بشكل واعٍ على الكلام معه، من خلال سرد الحكايات عن طفولته، ثم يسألني فأصمت.. يكمل حديثه ثم يسألني من جديد.. فأصمت.. مرة بعد مرة حتى انفجرت.

صداقات مع الصبية، ونظرات واتصالات هاتفية، وجوابات غرامية تصل بطرق مبتكرة، حتى مللت كل ذلك فجأة، كرهته وسرت عكس الاتجاه تمامًا، من المساجد لدروس المشايخ لحفظ القرآن وارتداء العبايات السوداء لانعزال تام عن الأسرة، لكُره للتجمعات التي بها الإختلاط بين الجنسين، ثم الطامة الكبرى حين قررت ارتداء النقاب، حينها فقط أدركت أمي أن لديها ابنة، رفضَت أن أرتديه وتصارعنا، حتى منعتني من الخروج به من البيت، وأصرت على ذلك.. دون إبداء أسباب.

هل كنت أفعل ذلك في محاولة للفت نظرها أم كنت حقًا متدينة؟ لست أدري الحقيقة!

أبي لم يكن له دور في حياتنا لأنه فارقنا مبكرًا، لكن أمي للأسف لم تعرف دورها الحقيقي، ولم تعرف الفرق بين الرعاية والتربية.

كانت لديها هي الأخرى حيلها الدفاعية الخاصة بها، ربما كانت تظن نفسها ضحية هي الأخرى بشكل أو بآخر وأنها أكثر من أم مثالية، حين قررت ألا تتزوج مرة أخرى وعكفت على رعايتنا. أو ربما ظنت أن كفاف العيش والمأكل والملبس والمدرسة هي عين التربية.

استغرقت سنين من عمري أحاول أن أثبت أن أمي مثالية، أنظر للحقيقة وأعكسها ثم أصدقها، أدعو لها على صفحات التواصل الاجتماعي كي أنعم ببعض السلام، لربما أتحسَّن يومًا، أو يزول إحساس النقص بداخلي، لكني كنت أزيد الأمر سوءًا، ويتضخم حجم الوجع واللوم على نفسي، أحمل عبء قلبي وحدي، أخطئ فلا أرجع سبب الخطأ للأمر الحقيقي.. بل للأمر المزيف الذي أقنعت نفسي به.

الحقيقة التي اكتشفتها أني انتهازية أحاول أن أحظى بالاهتمام من أي أحد وبأي طريقة، سواء شرعية أو غير شرعية، سواء من الشخص المناسب أو من غير المناسب.. لم يكن من السهل أن أصل لهذه النتيجة وأعترف بها.

يقنعني طبيبي أنني لست بهذا السوء فأنكر، كي أهرب من أنه ربما أمي هي من تسببت في ذلك، وأني لم أحظَ بأي اهتمام بي في صغري أو مراهقتي أو حتى شبابي، ماتت قبل أن تدرك دورها الحقيقي.

أنكر لأن كل الثوابت في حياتي تحطمت على صخرة الحقيقة، أنكر لأننا أحيانًا نحب أن نبني أصنامًا كاذبة ونصدقها ونعبدها.. أنا بخير، تربيت تربية جيدة، أمي امرأة مثالية، أبي فارس أحلامي، أخي سندي في الحياة.

إذا لم أصدق هذه الأكاذيب فهذا يعني أن أموت بجانب الحقيقة.. أمي أهملتني، أبي لم يشارك في تربيتي، أخي لا يهتم إلا بنفسه، أنا وحيدة في هذا العالم، أعيش بمفردي وأصارع كي أحصل على قوت يومي. تعلمت كل شيء بمفردي وواجهت حقائق مرعبة وحدي، أنا أخشى الناس ولا أحظ بالقبول إلا من القلب الدافئ (والذي أشعر أنه لن يصمد بجانب قبحي طويلاً) وطبيبي النفسي.

أحتاج أن أصدق هذه الأكاذيب حتى لا أقف عارية وأصرخ: لست ابنة لأحد ولا أمًا لأحد ولا شقيقة أحد ولا أختًا لأحد.

ولأن الزمن علمني أن الانتقام لا يجدي، وأن أفضل طريقة للعقاب هي أن تعيد الأشخاص أغرابًا كما كانوا.. فحتى ذلك لن يحدث.. لن أستطيع أن أجعل علاقات كهذه أغرابًا أبدًا.

لذا لست وحدي المذنبة.. لم يحسنوا تربيتي، لم أحظ باهتمام كافٍ لتقويم سلوكي، ولنتحدث عن الغفران دون نسيان.. هذا أقصى ما أستطيع فعله الآن.

ادعوا لي ببعض الراحة والسلام النفسي.

المقالة السابقةكيف تساعد الطفل على تجاوز وفاة أحد والديه؟
المقالة القادمةالالتزام على طريقة “إيفا” و”هتلر”
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا