هل يمكن أن نؤذي أبناءنا بحبنا لهم؟ هل يمكن لمساعدتنا لهم أن تعطلهم عن النمو؟ هل يمكن لرغبتنا في إسعادهم أن تكون سببًا في تعاستهم؟
دعونا نسمي الأشياء بأسمائها. إذا كان الحب يؤذي والمساعدة تعطل ومحاولات إسعادهم تتعسهم، فهي ليست كذلك في الحقيقة، بل يمكن أن نطلق عليها حينئذ: “الحماية الزائدة”، والتي تبدو من الخارج برَّاقة وجميلة ومغلفة بالحب، ولكنها تنطوي في جوهرها على مشاعر الخوف والذنب والرفض.
على سبيل المثال، هناك أم تعتبر أبناءها سبب وجودها ومصدر قيمتها الأوحد في هذه الحياة، تعيش لهم، وتلغي وجودها الحقيقي من أجلهم، فتترك عملها، أو توقف دراستها وأنشطتها من أجلهم، أو ربما تواصل عملها، ولكن لأسباب أخرى غير أنها تحبه. كل أهدافها في الحياة مرتبطة بأبنائها وليس لها أهداف خاصة. تبذل مجهودها ووقتها في رعايتهم، تخرج لتفسحهم، نادرًا ما توجِد وقتًا لنفسها، ولا تطالب به، وإن فعلت تشعر بالذنب.
نعم، قد يحتاج الأبناء في مرحلة ما من عمرهم معظم وقت الأم، خصوصًا عندما يكونوا صغارًا، وقد تختار هي أن توقف خططها وتُكرِّس معظم وقتها وجهدها لهم مؤقتًا، وهذا طبيعي ومقبول، ولكنها في نفس الوقت تسعى أن يكون لها وقت خاص تستريح أو تمارس هواية، أو حتى تواصل دراستها أو عملها أو نشاطها أو خططها بما تراه مناسبًا لظروفها، وأن يكون لها أهداف في الحياة منفصلة عن أبنائها.
اقرئي أيضًا: أجمل كلام عن طفل صغير، أجمل عبارات عن الأطفال
هذه اﻷم تفعل الأشياء بدلاً من أبنائها، وبهذا لا تتيح لهم الفرصة لتعلمها وإجادتها، حيث تهتم بالسرعة والجودة في إنجاز المهام. غالبًا ما نهتم نحن الكبار بالنتائج، في حين يهتم اﻷطفال أكثر بالرحلة التي تسبق تلك النتائج. هذه اﻷم تطعمه بنفسها حتى لا يتسبب في اتساخ ملابسه والمكان، وتحممه، وتختار له ملابسه، وتعد له حقيبة المدرسة، وتغرف له طبقه، وترتب له غرفته. قد لا تطلب من أبنائها مساعدة في المنزل، فهي ستقوم بها أحسن وأسرع، وليس لديها “خُلق للمناهدة” مع ابنها كي يغسل طبقه أو يضع ملابسه في مكانها. كما أنها قد تشفق على أبنائها، فلديهم واجبات أو يريدون أن يلعبوا أو هي أشياء صعبة عليهم.
هذا الأب ربما يسرف في الخوف واتخاذ احتياطات اﻷمان، فيمنع الطفل من النظر من البلكونة مثلاً، حتى لو كان الطفل يقف بشكل آمن وكان تحت إشراف أحد الكبار. وتسمعه كثيرًا يردد عبادات مثل: “خلي بالك أحسن تتعور، تتلسع، تقع، تتخطف، تخبطك عربية”.
يتأرجح هذا المربي بين الصرامة والتدليل، ففي أوقات يقول “لا” بعنف، بصراخ وبدون نقاش. وفي أوقات يعجز عن قول “لا” لأنه لا يتحمل أن يشعر ابنه بالغضب، أو الإحباط، أو الحزن أو الغيرة أو اﻷلم… إلخ. يشعر أنه مسؤول عن شفاء تلك المشاعر أو منعها من الأساس. لذلك نجد مثلاً أبًا يسمح لابنه بالموبايل في غير الأوقات المتفق عليها بينهما، أو أمًا تشتري لابنتها لعبة لأنها قالت لها “إشمعنى فلانة عندها وأنا معنديش؟”، ولا أتكلم عن كسر القواعد بشكل عابر مراعاة لظروف معينة.
قد يسرف هذا المربي في تخويف طفله حتى يقوم ببعض اﻷمور الضرورية “خلاص خلي السوسة تاكل سنانك، هتبقى ضعيف ومش هتعرف تلعب وأصحابك هيضربوك ومش هتعرف تدافع عن نفسك، جسمك هيبقى مش نضيف والجراثيم هتخليك عيان، هتبرد وتعيا وتقعد في البيت ومش هنتفسح ولا نروح عند تيتة، شكلك هيبقى وحش والناس هيضحكوا عليك”.
لا أدعو إلى إهمال صحة الأبناء ونظافتهم الشخصية، ولكننا نبالغ أحيانًا، ونعرف ذلك في أنفسنا عندما نفعله. فلن تتسوس أسنانه من يوم لم يغسلها فيه ﻷنه متعب، ولن يموت من الجوع إن فوَّت وجبة، ولا من البرد إن ارتدى ملابس خفيفة، بل سيتعلم اختيار الملابس المناسبة.
هذه الأم تفكر بدلاً من ابنها وتحل له مشكلاته بدلاً من أن تتناقش معه لتعرف مشاعره وأفكاره. عندما تجبر طفلك على مشاركة ألعابه مع اﻵخرين بالصياح أو التهديد أو إشعاره بالذنب أو الرفض “خلاص إنت وحش، محدش يلعب معاه”، فأنت لا تعلمه الكرم، بل تعلمه إلغاء حدوده. تحدث معه عن أسباب عدم رغبته في المشاركة، أخبره عن فضل الكرم، تناقش معه في عواقب عدم المشاركة، ودعه يتخذ قراره ويتحمل نتيجته ما دام لا يوجد ضرر جسيم عليه أو على اﻵخرين.
عندما يرفض اﻷطفال اﻵخرون مشاركته ألعابهم سيتعلم المشاركة، وسيكون قراره وقتها نابعًا من داخله. المشكلة أننا لا نحتمل أن يشعروا بالرفض أو الوحدة، وهذا مرتبط بصراعاتنا الشخصية. هذه الأم تتدخل لتحل له مشكلاته مع أصدقائه، فتملي عليه مشاعره بدلاً من أن تستكشف مشاعره الحقيقية معه، وتُحفِّظه ماذا يقول لهم، وتختار له أصدقاءه، هي لا تثق فيه بما يكفي وهذه الرسالة تصل إليه ويصدقها.
كانت إحدى صديقات ابنتي تضربها، تحدثت معها بعدها عما شعرت، وفكرنا في طرق تدافع بها عن نفسها إن حاول أحد الأطفال ضربها، واقترح كل منا بعض الأفكار. وعندما تكرر الموقف نفَّذت الحل الذي كانت قد فكرت هي فيه، ونجحت في حل الموقف بذكاء أثار إعجابنا. بالمناسبة، أنا لا أدَّعي أبدًا الحكمة، أو أنني “أم محصلتش”، بل لقد ارتكبت تقريبًا كل اﻷخطاء التي ذكرتها وما زلت، ولكنني أسعى في إصلاح نفسي.
إن من يحب أبناءه بهذا الشكل يسيء إليهم. فتلك الأم تحتل مساحات أبنائها، وتلغي شخصياتهم ووجودهم وهي لا تدري، بل وهي تظن أنها تُحسِن تربيتهم والاعتناء بهم، وتمنعهم حقهم في التجربة والخطأ. هي غالبًا لم تتعلم كيف تتعرف على مشاعرها واحتياجاتها الحقيقية، فلا تستطيع فعل ذلك مع أبنائها. هذه الأم تقسو على نفسها عندما تُخطِئ وتفعل نفس الشيء مع أبنائها عندما يخطئون.
وقد تريدهم أن يكونوا ممتنين لها طوال الوقت منتظرة منهم أن يعوضوها عن زهرة شبابها التي أفنتها من أجلهم، وتُشعِرهم بالذنب إن هم حاولوا أن يكونوا موجودين، أن يعبروا عن مشاعر غضب نحوها، إن قالوا “لا” لشيء لا يريدونه أو لا يناسبهم، إن اختاروا طريقًا في الحياة غير الذي سلكته، إن اختاروا تربية أبنائهم بطريقة غير التي ربتهم بها. هذا الأسلوب في المعاملة يجعل الأبناء يشعرون أن آباءهم عبء عليهم رغم أنهم في الأساس يفعلون كل لك من أجلهم.
لا يشترط أن تفعل كل ما سبق لكي يقال إنك تحمي أبناءك حماية زائدة، فكل شيء درجات، وليس أبيض أو أسود. ما الحل إذًا؟
أؤمن أن التربية الحقيقية ﻷبنائنا تبدأ بعلاقتنا بأنفسنا، وتكون مصحوبة بتربيتنا لها، وأن التعلم في التربية دون فهم ذواتنا وإصلاح علاقتنا بأنفسنا لن يفيد؛ سنعرف معلومات ونعجز عن العمل بها، وسيكون تغيير أساليبنا مع أبنائنا ظاهريًا، وسرعان ما سنعود إلى أساليبنا المعتادة مع أول ضغط نتعرض له. ومع تكرار ذلك نُصاب بالإحباط ونفقد الأمل في قدرتنا على التغيير.
نحتاج إلى مراجعة أساليبنا مع أبنائنا وجذورها في الطرق التي تربينا بها وعلاقاتنا بآبائنا وأمهاتنا. فربما كانت والدتك تستخدم في تربيتك سلاح الشعور بالذنب لتحملك على طاعتها، فكبرت وأنت تستخدم نفس اﻷسلوب مع أبنائك، وكبرت وأنت تشعر بالذنب نحوهم وتعتقد خطأ أنك مسؤول عن مشاعرهم وعن إنقاذهم والتفكير لهم. وربما تربيت بطريقة صارمة ليس فيها مساحة للنقاش والتعبير عن المشاعر والاحتياجات، وبالتالي لم يجد الأبناء من يتعلمون منه كيف يفعلون ذلك.
وتحتاج مراجعة طفولتنا وتأثيرها على حاضرنا إلى مساعدة متخصصة، كالانتظام في جلسات مشورة أو مجموعة علاجية. عندما نحب أنفسنا ونؤمن بقدراتنا ونستعيد شعورنا باﻷمان، سيمكننا أن نمنح أبناءنا الحب والثقة واﻷمان، وسيستقبلون هم منا هذه المشاعر ويؤمنون أنهم يستحقون الحب والثقة، ﻷن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب.
لنفعل ما بوسعنا ونرضى أن لنا حدودًا، فمع أن لنا الدور اﻷعظم في تشكيل شخصيات أبنائنا، إلا أنهم يولدون بطباع معينة، كما أنهم يتعرضون لخبرات ويقابلون أشخاصًا غيرنا يؤثرون فيهم.
لنبذل أقصى ما نستطيع ﻹحسان تربية أبنائنا، ولا نستعجل الثمرة، ولا ننتظر منهم مقابلاً، فقد اخترنا طريقنا في الحياة ومن حقهم أن يختاروا طريقهم.