لماذا لم أصبح أمًا جيدة؟

1306

 

هل تعرف ما مشاعر الذنب ووخز الضمير؟

هي كدلو بلا قاع، كلما أدليته في بئر صعد فارغًا بعدما ينهك كتفيك ويملؤك بالسراب.

آخر سفرية لي دون أعباء زائدة كانت أثناء حملي، وآخر فنجان قهوة بمزاج رائق كان على حساب مواعيد زوجي والكثير من وخز الضمير ومشاعر الذنب.

 

***

قرأت في أحد المواقع الأجنبية أن الأم إن لم تقتطع وقتًا لنفسها خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد الولادة قد تقع في أخطاء تربوية جسيمة نتيجة الضغط النفسي، فعليها أن تحظى لنفسها بساعتين أسبوعيًا، ويشاركها زوجها في بعض المرات.

أول مرة خرجت مع زوجي دون ابنتي كان بعد إتمام عامها الأول بشهرين تقريبًا، وأخفيت الحدث تجنبًا للتأنيب والوصم. والمرة الثانية والأخيرة كانت بعدها بستة أشهر.

 

***

يعتقد أغلب المصريين رجالاً ونساء أن اكتئاب ما بعد الولادة نوع من الضعف والتهرُّب من المسؤولية وليس له أسباب علمية.

كما تمتلئ السوشيال ميديا بأشخاص أياديهم في الماء البارد يُنظِّرون على الأمهات إذا ما انفلت من إحدانا سوء تصرف تجاه أطفالنا أو معاقبة في غير محلها، ويقارنونها بأمهات أوروبا وقوانين أوروبا التي تحرم الأم من أطفالها إذا أساءت معاملتهم.

ماذا تعرفون عن معاناة الأمهات في بلادنا؟ أي تأهيل نفسي تلقاه الأم الجديدة؟ أي مساعدات يقدمها المجتمع والمؤسسات وأماكن العمل؟

 

ربما تظهر بعض الشكاوى في صورة بَطَر على النعمة، ضعف احتمال، وما شابه. لذا يمكننا أن نتجاهل الصورة تمامًا ونتابع المثيلات في عالم آخر.

 

– كان قدر بعض صديقاتي أن يلدن في دول غربية، فإحداهن كانت تحكي لي أنها في حملها الثاني وفي إحدى زيارات الطبيب بكت، ولما سألها الطبيب عن السبب أجابته بأنها قد تركت العمل والأصدقاء والحساب الادِّخاري لتصبح أمًا جيدة، وليتها أصبحت، واليوم أول مرة تشعر بأهميتها واستحقاقها للتقدير. أجابها الطبيب بأن ما فعلته ليس تركًا لحياتها وإنما اسمه “شيفت كارير”.

هل تعرف كم مرة طاردتني كلمات محتواها أي إنجاز في كونك أمًا! الحيوانات أيضًا تحمل وتلد وتربي!

هل عليّ أن أصف كل مرة شعرت بالتضاؤل لتوقُّف عملي لفترة، بين زميلات يقدسن العمل ولا يرين في إلا تخاذلاً واستسلامًا للوضع؟

 

هل تعرف أن المحتوى العربي على جوجل، والتطبيقات العربية للحوامل كلها تحمل نفس النصائح المنقوصة وربما المغلوطة، التي لا تزيد أي ثقافة أو تأهيلاً؟

لي صديقة كان حملها الأول في بوسطن. بحثت عنها الجمعيات النسوية والصحية وأخصائيو الصحة النفسية، ولما وجدوها وحيدة في بلد جديد خصصوا زيارة منزلية لها ولزوجها لتقديم التأهيل النفسي، وكتب إرشادية لتعليمها ما عليها تجهيزه في البيت والأماكن التي يمكن أن تقدم لها خدمات مجانية بعد الولادة.

هل سأكتسب بعض الدعم بعدِّ الأشياء التي نُصِحت بشرائها ثم وجدتها فقط من باب المنظرة، والأشياء التي غفلتها ولم يخبرنني بأهميتها أحد، لأنه “مفروض تبقي عارفة!” وتُرِكت وحيدة مع احتياجاتي دون مساعدة حقيقية؟

 

لي صديق يقيم في تركيا أخبرني أن دورات المياه الرجالية في الأماكن العامة فيها مكان لتغيير حفاضات الأطفال.

تصور أن هناك يخرج الآباء بأطفالهم عادي؟! بل ويغيرون لهم الحفاضات أيضًا!

آخر زيارة لي لأحد أكبر المراكز التجارية بالقاهرة، كان الماء منقطعًا في الحمام الوحيد الذي به مكان لتغيير حفاضات الأطفال.

 

لي قريبة ولدت في المحروسة.

زوجها لم يتمكن من حضور الولادة، لأنه كان قد تسلم عملاً جديدًا للتو والإجازة ستكون بخصم كبير من الراتب.

أي بقعة في العالم تفعل هذا بامرأة في ولادتها الأولى بلا ثقافة أو تأهيل أو خبرات سابقة؟!

 

تظن الأمر تافهًا ومجرد موقف ويُنسى؟

لقد حضرت جلسة طلاق، ولما اتفق العائلتان على إتمام الأمر كان موعد الولادة قبل الإجراء الرسمي للطلاق. عرفت الطبيبة بالأمر فأدخلت الزوج غرفة العمليات يحضر الولادة. ومع قطع الحبل السري انعقد حبل سحري جديد بين الرجل وزوجته وتوقفت إجراءات الطلاق.

هذا شيء مما يقدمه تثقيف الأزواج بمتاعب الحمل والولادة.

 

***

هل شاهدت من قبل:

أمًا تسقط في هيستريا بكائية بعد أن تعاقب طفلها فينام حزينًا؟ أمًا تدق رأسها في الحائط حتى تتفادى انفلات أعصابها مع أطفالها؟ أمًا تنساب دموعها وهي تحكي حدوتة الأميرة التي تزوجت حبيبها وعاشت في تبات ونبات؟ أمًا تركت لطفلها حرية التصرف فاتُّهِمت بإفساده، وفي نفس الجلسة نفس الأم صرخت في نفس الابن فاتهمت من نفس الناس بإحباطه؟!

 

قبل مقارنتي بأمهات الغرب حدثني أولاً عن البيوت التي يدخلها الهواء من كل الجهات وتطالها الشمس، وعن الشوارع الآمنة والحدائق العامة التي ينفض فيها الأطفال طاقاتهم فيعودون إلى البيوت بلا تكسير أو هيستريا، وعن التثقيف المتواصل أثناء الحمل وبعد الولادة في كل المستشفيات. حدثني عن الثقافة العامة والدعم المقدم من أفراد العائلة وإجازة الوضع المقسمة بين الأم والأب.

 

***

طفلتي الآن قاربت إتمام عامها الثاني. ولأني أم أتعرف كم مكانًا رفض توظيفي؟ كم صديقًا تقاعس عن مقابلتي؟ كم مكانًا مُنِعت من دخوله خوفًا من إزعاج الآخرين؟ كم عملاً تخليت عنه؟ وكم عملاً تخلى عني؟ وكم حلمًا تأجل لموعد مجهول؟ وكم خطة فشلت؟ وكم… وكم…

 

كلما تغيرت نفسية طفلتي لكثرة البقاء في البيت، أخرج وأدعها تجري وتنطلق، لكني أعرف جيدًا أني ربما أعود إلى البيت دونها جرَّاء لحظة تشتت.. فقط لحظة أبحث عن شيء في الحقيبة أو أشرب كوب ماء مثلاً، يمكنها أن تفقدني حضن طفلتي للأبد.

قد أخرج معها فأثبِّت عينيَّ عليها وأمسك يدها قدر المستطاع، وأتجاهل أي أمور أخرى قد تشتتني، وأحملها إذا ما وقفت لشراء شيء أو إيقاف تاكسي، فنعود إلى البيت بحاجة إلى إجازة من أثر شد الأعصاب المتواصل.

 

ربما أجد متنفسًا بمساعدة زوجي أو إحدى صديقاتي، فأسرح في أحلامي وخططي المؤجلة، لكن آخر امرأة فعلت ذلك في المصيف، وجدنا صورتها منتشرة على الفيسبوك أمام البحر ومكتوب تحتها “الأم المصرية.. نكد إيفري وير”، دون أن يفكر أحد في حجم المسؤوليات التي تدك ظهرها باستمرارية حتى في الإجازات.

ولما خرجت بابنتي بحزام الأمان كنت في انتظار أن أجد صورتي أيضًا على الفيسبوك وتحتها منشور طويل عن سوء معاملتي للطفلة وربطها برباط الكلاب.

 

كل من يقدمون الأمنيات لنا يقولون “عقبى لما تخاويها” لكني إما أهديها أخًا يسليها الآن ويساندها غدًا، لكن تخسرني وتخسر تفهُّمي والباقي من أعصابي وشيئًا من شخصية وطموح تتفاخر بهما، أو أحافظ لها على أمها بكل الأمل المخزون في وتظل ابنة وحيدة.

لكن ربما في أرض غير الأرض وعقول غير العقول وثقافة أخرى أستطيع أن أمنح طفلتي سندًا يبقى جوارها بعدي، فلتكن الأمنية “عقبى لما تسافري فتخاويها”.

المقالة السابقةوفي ابتلاء الله حب
المقالة القادمةلماذا لم يخبرنا أهلنا عن الطلاق؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا