علم طفلك قول “لا”

2882

ذات مرة قالت لي ابنتي “الميس قالتلي إني أشطر واحدة في الحضانة”، وعندما سألتها عن السبب قالت “لأني بسمع كلام الميسات”، لم أفرح بكلامها، ولكني لم أعرف بماذا أجيبها، فابتسمت وسكت حتى أرتب أفكاري، ثم دار بيننا النقاش التالي:

 

– إيه رأيك يا شمس لو حد طلب منك تعملي حاجة غلط، يعني مثلاً لو حد معاكي في الحضانة قالك تعالي نضرب فلان تقوليله إيه؟

– لأ.

– طب لو صاحبتك قالتلك تعالي نلعب لعبة وإنتي عاوزة تلعبي لعبة تانية؟

– أقولها لأ.

– وممكن تشرحيلها السبب، تقوليلها مثلاً أنا عاوزة ألعب حاجة تانية دلوقت، أو ممكن نعمل لعبتي وبعدين لعبتك. يعني “لأ” مش وحشة، ساعات بيبقى الصح إننا نقول “لأ”. طيب لو الميس قالت اقفوا لاين عشان ندخل الكلاس، وإنتي مش عاوزة؟

– …

– المكان له نظام، محتاجين نحترمه عشان متقلبش فوضى، بس ممكن تتكلمي مع الميس عشان تفهمك، أو تتفقي معاها على اختيار النشاط اللي هتعمليه في الفصل. طب لو ماما طلبت منك مساعدة؟

– أساعد مامتي.

– صح، ولو مش قادرة أو بتعملي حاجة ينفع تقوليلها معلش أنا مش قادرة دلوقت، أو ممكن يا ماما لما أخلص كذا؟

 

ما كنت أحاول شرحه لابنتي أن كلٍّ من الطاعة والاعتراض يكون صوابًا أو خطأً حسب الموقف. فقول “لا” يكون صوابًا لو طُلِب منا أن نرتكب فعلاً خاطئًا أو فعل شيء يخالف رغبتنا، وأن الطاعة تكون هي الصواب أحيانًا احترامًا للنظام أو قيامًا بمسؤوليتنا. وفي جميع الأحوال يمكننا أن نتناقش مع الآخرين حتى نصل إلى حلول وسط.

 

لا أريد لابنتي أن تأخذ شارة الفتاة المتمردة التي تسير بمبدأ خالف تُعرف، وتستخدم “لا” كوسيلة لإثبات وجودها. كذلك لا أريدها أن تأخذ شارة الفتاة المثالية المطيعة، التي تمحو شخصيتها وتوافق دائمًا لترضي الجميع أو تسمع كلمة مدح من هذا أو من ذاك، فتكبت مشاعرها واحتياجاتها، وتشعر بالذنب إن قالت “لا”. أحب أن تكون ابنتي شخصية مسؤولة تحترم نفسها والآخرين. أحبها أن تكون حرة في قول “نعم” أو “لا”، حسب إرادتها ومبادئها التي تؤمن بها.

 

لقد وُضِعت منذ الطفولة في قالب الفتاة المثالية المطيعة، وربما ساعدت طبيعة شخصيتي الهادئة على ذلك، فأسكُت أو ألتزم الحياد خوفًا من الأحكام والنقد أو من إزعاج الآخرين وإغضابهم. كبَتُّ غضبي ومعه حبي، هي حزمة واحدة، فإما أن نعبر عن كل مشاعرنا بصدق وإما لا. وقد تسبب ذلك في وضع الحواجز بيني وبين الآخرين، وجعلي شخصية غير واضحة بالنسبة للبعض. وعيت مؤخرًا بهذه المشكلة، وقطعت شوطًا كبيرًا في التحرر من مخاوفي والتعبير عن نفسي.

 

لكي يستطيع الطفل أن يعبر عن مشاعره واحتياجاته وآرائه، يحتاج أن يشعر أنه محبوب ومقبول ومحترم في جميع حالاته، خصوصًا في حالات الضعف والخطأ، وأن تصل إليه رسالة أنّ كل مشاعره مقبولة. وعلى الرغم من أن مشاعر الطفل ومطالبه قد تبدو تافهة أو غير مفهومة بالنسبة إلينا أحيانًا -وأنا أعلم كم يثيره هذا من غيظ- إلا أنها مهمة ومفهومة بالنسبة له. لذلك، لنحاول أن نصبر ونستمع إلى الطفل ونحن نضع أنفسنا مكانه. ليست مسؤوليتنا أن نهدئه أو نسعده أو نلبي كل مطالبه، ولكن مسؤوليتنا أن نساعده على فهم مشاعره والتعبير عنها بطريقة ملائمة، وأن نحترمه حتى لا يعتقد أنه مزعج عندما يعبر عن نفسه.

 

يحتاج الطفل أيضًا ألا يُلام أو يُنتقص منه إن أخطأ، بل تصل إليه رسالة أن الأخطاء فرص للتعلم، وأنها قابلة للتعامل معها بإصلاحها والاعتذار عنها، مع الاحتفاظ باحترامنا وحبنا لأنفسنا، فلا نشعر بالذنب أو نتَّهِم أنفسنا بالسوء.

 

ولكي تتوازن الكفة، فإن الطفل كما يحتاج إلى الحرية فإنه يحتاج أيضًا إلى القواعد والحدود، التي يتعلم منها المسؤولية واحترام الآخرين، فالحرية تصحبها مسؤولية. مشاعره مقبولة، لكن قد نرفض طريقة تعبيره عنها إن كان بها أذى بدني أو معنوي لنفسه أو للآخرين.

 

على سبيل المثال: “مقدرة إنك غضبان لكن مش مسموحلك تضربني”. وعندما تكون هناك موضوعات مسبِّبة للخلافات بشكل دائم كوقت الشاشة أو عمل الواجبات، نجلس معًا ونتناقش حتى نصل إلى حلول مُرضية للجميع، ثم نتحرى التزام كل الأطراف بما تم الاتفاق عليه دون إهانات أو لوم. وما لا غنى عنه، يحتاج الطفل أن يسمعنا نقول له “لا” ونعبر عن مشاعرنا ونطالب باحتياجاتنا. على سبيل المثال “عارفة إنك عاوزني ألعب معاك، بس أنا مش قادرة أو مش عاوزة دلوقت، محتاجة أستريح أو عندي شغل، ممكن أستريح شوية؟ ممكن أخلص اللي ورايا ونلعب مع بعض؟ فكر تحب نلعب إيه لحد ما آجي لك؟”.

 

الخلاصة هي الموازنة بين الود والحزم، نتعاطف مع الطفل ونسمح له بالتعبير عن مشاعره ولكن بطريقة ملائمة، نسمح له بالخطأ ولكن يُصلِح ما أفسده، نسمح له بقول “لا” ونسمح لأنفسنا أيضًا، لا نلوم ولكن نبحث عن الحلول.

 

ثقة الطفل في نفسه، حبه لذاته، قدرته على التعبير عنها بحرية أمور مهمة جدًا ليواجه التنمر والتحرش وضغوط الأقران وأي أذى يتعرض له. فالطفل المهزوز أو الذي يفتقد الإحساس بالأمان أكثر عُرضة للتنمر والابتزاز العاطفي عن طريق تخويفه أو إشعاره بالذنب أو تهديده بالنبذ. وهذا لا يحدث من أقرانه فقط، بل قد يقع منا -نحن الكبار- عندما نقول له “خلاص أنا زعلان منك، إنت وحش، محدش يكلمه ولا يلعب معاه…”، وعلى النقيض، فإن الطفل الفاقد لمشاعر الثقة والأمان والحرية، قد يفرغ غضبه المكبوت في غيره من الأطفال، ويصير متنمرًا بهم، ليكتسب إحساسًا زائفًا بالقوة والسيطرة.

 

من السهل أن نكون مربين متسيبين، ومن السهل كذلك أن نكون مسيطرين، ولكن ما يسهم في تنشئة أطفال أسوياء أقوياء هي المساحة التي بينهما، مساحة اللين والحزم، الحرية والمسؤولية، أن نجمع بين تلك المتناقضات.. هذا هو التحدي.

المقالة السابقةكلانا نُتقن أساليب الابتزاز
المقالة القادمةفي ديسمبر تنتهي كل الأحلام.. لتبدأ أخرى

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا