من وحي فيلم Ballerina: فيكتور صديقي الذي أفتقده

2066

بقلم/ إيمان عادل الصبروت

ذات يوم أخبرني زميلي في العمل أنه شاهد فيلم رسوم مُتحركة بطلتة تُشبهني كثيرًا. ازداد حماسي وقلت له كم أُحب هذه الأفلام. وأمسكت هاتفي وسألته ما اسم الفيلم، فقال لي فيلم Ballerina بحثت عن الفيلم وظهرت لي صورة بطلته، فقلت له باستنكار: تشبهني؟! كيف؟! فهي ذات عينين ملونتين وشعر برتقالي. فقال لي إنها تُشبهني تمامًا في روحها وشخصيتها الحالمة، فعندما كان يشاهده تخيل أن مؤلف الفيلم يعرفني جيدًا، لذا اتخذني مُلهمته وقرر أن أكون أنا بطلته مع تعديلات بسيطة.

شكرتهُ علي مُجاملته الرقيقه ووعدته أن أُشاهد الفيلم حيثما أجد وقتًا، لكنني في هذا اليوم لم أتمكن من النوم حتى شاهدت الفيلم. لأجدني هناك في ثلاثينيات القرن الماضي في باريس.. فتاة جميلة، بسيطة، طموحة، حالمة، عفوية، تركض وراء أحلامها مهما قيل لها إنها مُستحيلة، مؤمنة بنفسها وذات كبرياء عالٍ وقلبٍ رحيم.

كنت أشاهد الفيلم بعينين مفتوحتين وقلب يملؤه الشغف.. وروادني إحساس مختلف وأنا أشاهدهُ، مزيج من الدهشة والفرحة والحماس. وما زاد من دهشتي أن صديقها المقرب يشبه كثيرًا صديقًا لي، يُشبهه إلى حد التطابق في كل شيء، في ملامحه، طيبة قلبه، ذكائه، حسه الفُكاهي ومساعدته لها في تحقيق أحلامها حتى لو كان ذلك سيعرضه للضرر، والأهم من كل ذلك يشبهه في حفظ العهود وتحمل المسؤولية.

أنهيت الفيلم وأرسلته إلى صديقي هذا، ومعه رسالة أقول له فيها “إن كنت تؤمن بتناسخ الأرواح فعليك مشاهدة هذا الفيلم”، ونمت وأنا مُندهشة ومبتسمة.

اقرئي أيضًا: شكرا صديقتي: أجمل رسالة شكر لصديقتي الغالية

في صباح اليوم التالي هاتفني صديقي يضحك بشدة. سألته عن ما يُضحكه، فأجاب بأن باقي شخصيات الفيلم أيضًا يشبهون شخصيات حولنا ونتعامل معهم دومًا، وأخذ يسردهم لي. ثم أخبرني مازحًا أننا نُشبه بطلي الفليم فعلاً لكنه لا يشبه “فيكتور” في الشكل، فهو أكثر منه وسامة. قلت له إن الفرق الوحيد بينه وبين بطل الفيلم أنه يدعمها ويهتم لأمرها لعلها تحبه يومًا ما، لكن دعمك لي غير مشروط، وإيمانك بي نابع من محبة أخوية خالصة.

تحدثنا هذا اليوم كثيرًا، أخبرته عن أمر دراستي التي لا أجد الوقت الكافي للاهتمام بها، وأخبرني عن عمله الذي يُريد أن يتقنه ويتعلم عنه المزيد وعن مشاريعه المؤجلة. قلت له بما أنك رسميًا الآن صديقي الأقرب دعنا نساعد بعضنا لعلنا نصل معًا أسرع، فلا تخجل من طلب مساعدتي في أي شيء أستطيع أن أقدمه، وأخبرني هو أنه سوف يشجعني على مواصلة دراستي إذا ما رآني أتكاسل. ومنذ تلك اللحظة تعاهدنا أن يكون لي سندًا وأكون لهُ عونًا.

مع مرور الوقت اعتبرته فردًا من عائلتي، واعتبرني أختًا لم يرزقه الله بها حتى التقاني. يُسايرني في أحلامي المجنونة وتطلعاتي غير المألوفة، يشاركني شغفي بالكتب والمكتبات وهو غير مهتم بالقراءة من الأساس، ويركض معي إلى الأوبرا لألحق شراء تذكرة الحفل الذي أنتظره منذ شهور بلا تذمر. يتوسط لدى والدتي لتسمح لي بالذهاب إلى الحفل الذي أنتظره، واعدًا إياها بأنني لن أتأخر مثلما أفعل دومًا، وسأكون في المنزل في الموعد الذي سوف تُحدده لي.

كان جمهوري الوحيد الذي أقص عليه حكاياتي عن معاني الآيات وأسباب نزولها وعن الصحابة الأوائل وإيمانهم، وعن الإسكندرية والموسيقى و حواديت الأفلام ، وأم كلثوم التي حيرت قلب الشاعر أحمد رامي، وبليغ حمدي وعبقريته الموسيقية وعشقه لوردة وحبي لهما، وعن صديقتي التي تُشبِّهني بسعاد حسني، والأخرى التي تقسم أن صوتي به دلع وأنوثة شادية، وكان ينصت لكل هذه القصص ولا يمل منها، وعندما أنتهي يقول لي بكل حماس: آه لو كنتِ مذيعة! كنتِ ستصبحين أنجح مذيعة على الساحة، فأنتِ ذكية، لبقة وموهوبة.

أما هو فكان يُخبر من حولنا بأنني غيرته وهذبت طبعه، فهو القوي الذي لا يخاف أحدًا ولا يهتم لأحد، أصبح ينتقي كلماته ويَجبرُ خاطر من حوله، يستمع جيدًا لمن أمامه قبل أن يندفع في الكلام، ويعتذر إذا ما أخطأ. أصبح يقرأ ويذهب إلى معرض الكتاب ليشتري كُتبًا. هو الذي لم يكن يتخيل أن يدفع جُنيهًا في كتاب. واختلف ذوقه الموسيقي، فأصبح من محبي الكلاسكيات بعدما كان من مُشجعي وعاشقي الأغاني الشعبية، يعطف على مُتسولي الشارع، وأصبح يساعد ويدعم ويشجع من حوله مثلما يراني أفعل. ويؤكد دومًا لأصدقائنا أن وجودي معهم نعمة وأن دخولي دنياهم بهجة وسند ونور فأنا مثل نجم آسيل الذي ينير عتمة الليل.

وعلى الرغم من كل هذا الود كانت مشاجراتنا معًا لا تنتهي، وخصامنا ممتد، على كل الأسباب، أعظمها وأتفهها، لكن من أكثر الأسباب التي تُضحكني كلما تذكرتها، عندما يدخل دائرتنا صديق جديد كان يتقبله في البداية على مضض، ولكن سرعان ما يفعتل مشاجرة معي ويغضب ويُقسمُ أنه لن يتحدث معي مره أخرى. وبمجرد ما أقول له أو أبعث له جملة tell vector that : he is my best friend ever  يضحك ببراءة شديدة وينسى أمر المُشاجرة. كان دومًا يخاف أن يأخذ غيره مكانته في قلبي، وكانت هذه الجملة بمثابة شدة اليد التي تقول له اطمئن لا يوجد شخص مثلك.

مررنا بمواقف صعبة، واقتسمنا طعامنا وأحلامنا معًا، كنت -على الرغم من رقتي- سنده وعكازه، وكان -على الرغم من خشونته- إشارة أستدل بها على حب الله وحفظه ورعايته لي. وبعد كل هذه السنوات والذكريات والمواقف والتراكمات انتهت علاقتي بصديقي الوحيد، وأصبحنا غرباء، لم نعد نعلم عن بعضنا شيئًا.

أخبرتني صديقتي ذات مرة أنه عندما يعطينا الله هدية نمسكها في أيدينا ثم نضعها في قلوبنا، وهذا ليس مكانها الصحيح، وعندما يريد الله أن يسترد هديته نتألم لأننا اعتبرناها حقًا مُكتسبًا لنا، وأن لله لطف خفي حتى في الألم، وما علينا ألا نرضى ونستسلم لقضائه. أتذكر هذه الكلمات عندما يؤلمني قلبي على رحيله، تمنح قلبي بعض العزاء المؤقت.

إلى فيكتور.. ليتنا لم نعد غُرباء.. يمزقني غيابك ويؤلمني حديثي عنك بصديقي الذي كان. أعلم أنك تفتقدني بقدر ما أفتقدك وأكثر، وأن غيابي يُحزنك، ولكن هل كان هناك حلُ آخر؟ ليتنا نستطيع العودة بالزمن للخلف، لنُصلح ما أفسدناه ونبقى أبد الدهر معًا، ولكنها الدنيا. ألومك كل يوم على ما فعلته بي، أعاتبك على فراقنا وأغضب منك وأسامحك وأسامح نفسي. كل يوم يقُص عليَّ قلبي نفس القصة ويسألني السؤال المُعتاد: ألم يكن هناك حل غير البُعد؟

أتذكر نظرة عينيك ونبرة الحزن في صوتك وأنت تقول لي “أعلم أني أؤذيك.. غضبي شديد وتصرفاتي تجرحك.. لكن من فضلك تحمليني؛ لا أُريد خسارتك” لكن خانتني قدرتي على التحمل. لم أستطع. أعلمُ أني من قررت إنهاء كل شيء وأن يمضي كل منا في طريقه وحيدًا، وأني من قطع حبال الود بيننا، ولكن أنت من خذلني وأنت من ناولني المقص. أعلمُ أني من أوليتك ظهري وركضت من أمامك بكل ما أوتيت من قوة، ولكن هل لك أن تعلم أنني عندما وقفت لألتقطُ أنفاسي ونظرت حولي فلم أجدك بكيت؟

أرتقي وأحقق نجاحات صغيرة وكبيرة، وتنهال عليَّ التهاني وكلمات التشجيع، لكن قلبي يأبى أن يفرح من دونك، ويقسم لي أن فرحته منقوصة، لأنك لست هنا. أعرف أن ما فعلته بي كان قليلاً بجانب ما فعلته من أجلي، لذا سامحتك على الكثير من أفعالك، ولكن ليس جميعها. لا أستطيع الآن أن أُسامحك عليها جميعًا، لكن من يدري ربما أعفو يومًا ما.

وفي النهاية أودُ أن تعلم أني أُكنُّ لك كل الحب والتقدير والاحترام، وأتمنى لك التوفيق وأتذكرك دومًا في صلاتي، وأدعو الله أن يعوضك عني خيرًا. واعلم يا صديقي أن رحيلك عني لا يعني أبدًا رحيلك مني.

المقالة السابقةالابتزاز العاطفي للزوجة والأبناء: أشكاله وطرق مواجهته
المقالة القادمة6 أفلام من السينما العربية والعالمية جسدت العنف ضد المرأة
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا