حوِّلْ .. هل تسمَعُني؟!

1397

بقلم: كريستينا ناجي

 سنواتٌ عديدة قد مرَّت، وما زلت أتذكر تلك الصديقة المجتهدة، أسوانيَّة الأصل، في سكن الفتيات المغتربات؛ فتاة شقراء، في عامها الجامعي الأخير من نفس كُليتي.

في عامي الأول، في إحدى ليالي الامتحانات، كان الليل قد انتصف بالفعل منذ ساعتين. دخلتْ هذه الفتاة لغرفتي، وبعد أن عرفت المادة التي سأمتحنها غدًا، سألتني: متى أنام؟! .. استغربت قليلًا من سؤالها؛ رُبما لأنني كنت أنتظر بعض التصفيق والتهليل لسهري في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، أمام أكوام الورق!  .. لا أتذكر باقي كلامها، إلا أنها طلبت مني ورقة صغيرة، كَتبتْ عليها جُملة ما، طلبت مني قرائتها جيدًا، وأن أذهب للنوم فورًا بعد ذلك.

“لمَّا نهتم ونسمع لجسمنا، جسمنا هيهتمّ بينا!”

 

هكذا كتبت صديقتي .. بالطبع لم أفهم في وقتها هذه الكلمات، إلا أنني اعتقدتها نصيحةً ذهبيةً من فتاة؛ رُبما اعتادتْ أن تسمع لجسدها! .. لم أعلم حينها، ماذا يحتاج أو ماذا يقول جسدي؟! .. وهل جسدي يتكلم؟! أو يحاول أن يقول لي شيئًا عمَّا بداخلي؟ وكيف أسمعه؟!

اسمح لي -عزيزي القارئ- أن أطرح معك هذه الأفكار في كلماتي القادمة.

كأي شخص كبر وتربَّى في بيت مصري أصيل؛ ترددتْ في بيوتنا وعلى مسامعنا جُملٌ من نوعية: “أهم حاجة تخلص طبقك كله على آخره أحسن الأكل يزعل!”، ” ما أنتِ كلتِ يا بنتي فراخ الضهر مالك بقى مش مبسوطة ليه؟!”، “أول ما تاكل هتبقي كويس!”. تربَّى أغلبنا أن كل شيء سيصبح أفضل بالطعام والمزيد من الحلوى، وأن الشخص لن يحتاج أكثر من أكلة حلوة، كوب شاي مُنَعْنَع، وسيصير في أفضل حال بعد ذلك. لكن هذا لم ينجح في كل الأوقات!

بالطبع، كان الطعام جميلًا، بل مهمًا، تم بذل الحب والمجهود الكبير لصناعة تلك الأطباق الشهية، كانت مفيدة لبناء جسدي الطفولي حينها؛ إلا أني مع الوقت أدركت أن جسدي يحتاج لما هو أكثر من ذلك .. ربما يحتاجني أن أسمعه، وهو يحاول لفت انتباهي لإرهاق هنا وهناك، تراكم منذ أيام طويلة في ذهني وعضلاتي، يطلب مني مزيدًا من النوم ليستعيد طاقته!

في مراتٍ أخرى، انتبهت له وهو يقول بصوت خفيض في خلفية زحام الأيام: “أحتاج إلى حُضن!”.. حضن دافئ يحتويني بلا أية مصالح أو شروط وسط يومي.

مع الوقت تأكدت من صحة مقولة صديقتي. فربما في تلك الليلة -ليلة الامتحان التي أخبرتكم عنها-، كان جسدي يريدني أن أتوقف وأترك أكوام الورق، وأخلد إلى النوم؛ فلقد فعلت كل ما يجب عليّ فعله طوال اليوم، و كان حينها وقت الراحة فقط، لأني مُتعبة! لكني لم أفهم.

أتذكر مرَّاتٍ رأسي وهو يؤلمني بعد التفكير بتركيز شديد، أو التوتر لفترة طويلة ..أعرف هذا الألم جيدًا، ورُبما -ببعض التخيُّل- كأنَّ رأسي طفل صغير ينظر لي بعيونه البريئة ويخبرني أن أتوقف، وأن أحنو على نفسي وأعطيها بعض الهدوء بعد تفكير عاصف! .. حاولت “أكبّر دماغي ومكبّرش الموضوع”، إلا أنه لم يكن حلًا؛ فألم رأسي لم يهدأ إلا بعد أن هدأت نفسي وتوقفت لبعض الوقت عن التفكير المُنهك!

بالطبع، أنا لا أشجع الكسل والتراخي أو التوقف عن أي مهام بمجرد الشعور بالإنهاك؛ لكني أقصد أن أنتبه، أعطي لجسدي بعض التركيز؛ فرُبما يريد أن يقول لي شيئًا عن مشاعري أو أفكاري في داخلي.

 

  • ماذا بعد؟!

حسنًا، الآن ماذا يجب أن تفعل؟ .. إنْ كنت أول مرة تقرأ عن هذا الموضوع، دعني أقدم بعض الأفكار البسيطة العملية ربما تستطيع البدء بها في هذه الرحلة.

 

  •  “لحظة من فضلك”

في وسط يومك المزدحم، توقفْ لحظةً، اتركْ أية أجهزة إلكترونية، قفْ أو اجلسْ لدقائق معدودة في هدوء هنا والآن! لا تفكرْ في الغد، ولا بعد ساعة، ولا في الأمس، أو ما فعلته، الآن والآن فقط! رُبما ستشعر أنْ لا شيء يحدث في البداية؛ إلا أن بعد تكرار هذا الأمر ، ستبدأ تهدأ وتنتبه لمشاعرك؛ التي سيخبرك بها جسدك أحيانًا. فمشاعر كثيرة تتراكم تحت الزحام، وتحتاج لدقائق فقط؛ كي تعبر عن نفسها..

 

  • ماذا يمكنني أن أفعل؟!

ربما تكون إجابة معظمنا: لا أعرف! .. حسنًا، إجابة جيدة. لا تتوقعْ الوصول بسهولة أو بسرعة؛ إلا أنه بالتدريج والتجربة ستتضح إجابات، وإليك بعض الاقتراحات:

ماذا عن بعض الأوراق الصغيرة الملونة، وتدوين أي شيء يتبادر إلى ذهنك فيها؟ أو ماذا عن ممارسة الرياضة الخفيفة، أو المشي وسط مكان هادئ؟ .. ما رأيك في فعل شيء واحد فقط في وقته، ولا تحاولْ فعل أكثر من شيء في نفس اللحظة؟ ..ربما يساعدك أيضًا حمام دافئ قبل النوم، والاستماع لبعض الموسيقى الهادئة.

 

  • ما الهدف؟

أن أنتبه لجسدي ونفسي، أن أكون حاضرًا اليوم فقط، أن أبذل كل المجهود لأعي بنفسي وأسمع ما يدور بداخلي.

 

  • خايف!

وأنا أيضًا! .. أذكر تلك اللحظات التي بدأت أتعلم فيها أن أهدِّئ كل الصخب من حولي، تفاجأت بضجيج من نوع آخر يأتي من أعماقي .. توترتُ للغاية! تساءلتُ: ما الداعي لكل ذلك! .. حاولت الهروب كثيرًا، إلا أن ما بداخلي سيفصح عن نفسه في إرهاق شديد، ربما بعض الأعراض الجسمانية؛ كي أنتبه، فهو سيخرج سيخرج مهما حاولت الهروب. مع الوقت تعلمتُ الحضور والتفاهم مع هذا الضجيج!

وأخيرًا، أود أن أترك معك خبرًا مُطمئِنًا، إنْ نويت الذهاب في هذه الرحلة يا عزيزي لا تذهبْ بمفردك. ادعُ الله أن يُؤتيك قوةً من عنده؛ كي يسند ظهرك إذا رأيت ما يخيف، ويصلب طولك إذا انهرت ولم تقدر أن تقاوم ما بداخلك من حزن!، وأن يرافقنا وينعم علينا بسلامه العميق وسط رحلاتنا لداخلنا لنكون أشخاصًا أفضل نعرف ذواتنا، نتواصل معها، نحترم جسدنا ونقدر محاولاته أن يقول لنا شيئًا عمَّا يحدث في أعماقنا من أسرار.

 

  • حوّل..هل تسمَعُني؟!

سأترك معك هذا السؤال -عزيزي القاريء- من جسدك، وأعتقد أنك الآن قادر على الإجابة عليه بوضوح..

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةجاتها النوبة
المقالة القادمةاحتياجك حقك!
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

2 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا