تروما تغطية الخبر: كيف يتلقى الصحفيون المذابح

1809

كنت أقف في المشرحة وحدي، لم يكن يتجاوز عمري وقتها الـ22 عامًا، الهرج والمرج في كل مكان، الدماء متناثرة على الأرضية البنية اللون، أمهات يصرخن، عائلات كاملة يبدو على وجوههم علامات الرعب، جثث تنقل على الترولي الخاص بالمرضى، أراها رأي العين، لأول مرة، وأنا التي كنت أخاف أن أحضر جنازة!

هكذا نقلنا الأحداث وأتممنا التغطية، ولكن كيف يتلقى الصحفيون الخبر.

فبراير 2012: كيف بدأ الألم

كانت معظم الجثث لأطفال صغار لا يتجاوز عمر أكبرهم  الـ20، ذهبوا لحضور مباراة الأهلي وبورسعيد في فبراير 2012، ولكن سقطوا شهداء خلال المباراة. كان المطلوب مني وقتها تغطية الحدث، فعلت كل ما بوسعي أن أحافظ على رباطة جأشي، كما يقال بالعربية الفصحى، أو لسخرية القدر أن أمسك أعصابي كما نتداولها بالعامية، ولكن هل نجح الأمر؟

لا أعرف.. ما أتذكره هو أنني اكتشفت جلوسي بجانب إحدى الجثث مباشرة، وأنني تراجعت للوراء حتى التصقت بالحائط تمامًا، فصرت جزءًا منه لا يتحرك، بينما أحاول دفع الهواء لرئتي، بعد أن  كادت أنفاسي تتوقف حرفيًا -لا مجازًا- من شدة الرعب. هل بدا أن أطراف تلك الجثة استندت عليَّ، أم استندت أنا عليها؟ لا إجابة، فقط  صورة مشوشة، لوجه صغير ذاهل، ودموع منسابة وأنا أستمع إلى الصرخات واللطم والبكاء خلال حديثي مع الأمهات، وأحيانًا الجدات اللاتي حضرن، لاستلام جثث أبنائهن، مع برودة في الأطراف ورعشة استمرت لليوم التالي.

لم تكن هذه نهاية المشهد بل فقط البداية

الحقيقة أنها لم تكن النهاية، بل كانت بداية كل شيء، بداية خوف مطلق بداخلي لا أتحدث عنه، صورة كلما استرجعتها، أحاول منع نفسي من البكاء، وأحيانًا الانهيار، عندما أتساءل: لماذا هم؟! ماذا فعلوا لكي يحدث لهم هذا؟! لماذا لم أفعل شيئًا لهم؟! هل ممكن أن يسامحوني على تقصيري في أحد الأيام؟! أحيانًا كان يصل الأمر إلى سؤال: هل أستحق الحياة أصلاً؟

لم يتوقف الأمر. اللوم الداخلي كان كبيرًا، والغضب كان أكبر، وكذلك الشعور بالعجز، والذي تُرجم إلى كثير من القلق والتوتر والشعور بعدم الاطمئنان، وهزة داخلية عنيفة، لم أدركها أساسًا إلا عندما تحدثت مع أحد الأقارب مصادفة بعدها بعامين، وكان الحل لكي أتعايش مع الأمر عدم تذكره. لأعرف بعد ذلك -خلال حضور إحدى الدورات الخاصة في المجال الصحفي- أن ما تعرضت له هو ما يسمى في علم النفس كرب ما بعد الصدمة، وقد يتطور إلى اكتئاب أو اضطرابات نفسية.

الصحفيون وكرب ما بعد الصدمة

الصحفيون في الوقت الحالي محتاجون لعلاج نفسي

جملة تطلقها إحدى الصديقات في الفضاء الرحب، تحظى بالكثير من التأييد، لم تكن الكلمات الصادرة عنها وهي تتنهد بدافع السخرية أو المزاح، بل كانت الكلمات صادقة وجادة، عقب تغطيتها الكثير من الصراعات داخل مصر والحروب خارجها، لتعبر عن المسكوت عنه وتصف أحد أهم الأسئلة التي صارت تواجه المجتمع الصحفي، وهو: “هل أثرت الأحداث التي يغطيها الصحفيين عليهم نفسيًا سواء كانت جرائم أو حوادث أو كوارث طبيعية أو صراعات، خصوصًا منذ أواخر عام 2010″؟ وأبسط تلك التأثيرات ما يعرف فى علم النفس بـ”كرب ما بعد الصدمة”.

في تعريف  اضطراب ما بعد الصدمة بحسب النظام العالمي للتصنيف الطبي للأمراض: هو أحد الأمراض النفسية التي تصيب الفرد بعد تعرضه لحادث صادم، قد يكون كارثة طبيعية، حادثًا شخصيًا، اعتداء بدنيًا أو معايشته أو مشاهدته، قد تؤثر على قدرته على ممارسة حياته، وتتفاوت الأعراض في حدتها على حسب قوة الحدث، ومدى قدرة على الشخص على تقبله أو تجاوزه.

حكايات يمكن سطرها في مجلدات

تبدو الكتابة عن الأمر مؤلمة بحق وصعبة، مثل مشرط دقيق يمر في جسد مريض دون مخدر، فهناك الحكايات عمن قرروا الذهاب لطبيب نفسي، لعلاجهم من الآثار النفسية الصعبة لممارسة المهنة، وهناك من قرر الاستمرار في المهنة مع الابتعاد تمامًا عن تغطية الصراعات أملاً في حياة هادئة، وهناك من ترك المهنة، وهم كثيرون بالمناسبة.

هل أتحدث عن زميلنا البالغ من العمر 34 عامًا، الذي جلس على الأرض في إحدى المرات ورأيناه يبكي دون أي أسباب، ورفض الحديث، مؤكِّدًا أنه يشعر بالحزن والألم دون سبب. أم قصة تلك السيدة التي قررت أن تتخلى عن العمل الصحفي، واختارت الجلوس في المنزل، رغم الأمان المالي والامتيازات الشخصية، بعد أن أصبحت غير قادرة على ممارسة حياتها بشكل طبيعي أو تربية أبنائها بشكل صحي؟ وثالثة ذهبت لطبيب نفسي لفهم ما يحدث لها من عدم القدرة على الاستمتاع بشيء في الحياة. أستطيع أن أسرد عشرات القصصص، بالأرقام، وسيكون الأمر مخيفًا فعلاً.

العلم هو من يتحدث

“من اضطر إلى تغطية أحداث بها اشتباكات أو عنف أو صراع؟”، سؤال طرحته المدربة في الدورة التدريبية الصحفية: “التعامل مع الصدمات والإصابات الطبية”، بهدوء لا يتناسب مع طبيعة السؤال، عندما رفعت يدي مع اثنين من زملائي من الحضور، طلبت منا الحديث عن أنفسنا كصحفيين، ومشاعرنا خلال التغطية. بدا الأمر صعبًا بالنسبة لي في البداية، ثم مستحيلاً في النهاية، خوفًا ثم ألمًا.

كان ذلك الخيط الذي بدأت منه المدربة الحديث، عن فكرة الصدمات النفسية التي يتعرض لها الصحفيون، والتي تسبب كرب ما بعد الصدمة، لم يكن الأمر خاصًا ببلد معين كما أكدت، بل هو أمر قد يحدث لأي صحفي في العالم، يغطي في منطقة بها اشتباكات أو أحداث عنف، أو حتى الجرائم العادية والحوادث.

وعرضت “جودي” الصحفية الأمريكية، التي عملت في صحف مثل نيويورك تايمز، واشنطن بوست، والتايم، تجربة أحد المصورين  الأمريكيين “أندرو” الذي عمل مصورًا في العراق لفترة، وكانت النتيجة عند عودته، هي عدم قدرته على ممارسة حياته بشكل طبيعي، ما بين الكوابيس المستمرة، وعلاقة زوجية غير مستقرة، وعصبية دائمة، وعنف يظهر أحيانًا في السلوك. واعتبرت أن تلك الأعراض غالبًا ما تحدث ولكن بأشكال متفاوتة وعلى حسب طبيعة الشخصية.

أحببت “جودي” حقًا

في الحقيقة أحببت “جودي” رغم أنني كنت أقابلها لأول مرة في حياتي، ورغم أن مدة التدريب لم تتجاوز بضعة أيام، ولكن لأول مرة شعرت بأن هناك من يتعاطف معي كصحفية، ويتفهم أوجاعي، ويدرك أن الإصابة لا تكون جسدية فقط، بل هناك إصابات نفسية خفية، ويقدم علاجًا حقيقيًا بعيدًا عن التنظير والكلمات الرنانة.

الحديث مع صديق أو أحد أفراد العائلة أمرًا إيجابيًا، لو كان متفهمًا لظروف العمل الصحفي

كانت “جودي” تتحدث معنا بتلقائية وخفة، عن الطرق التي يجب أن يلجأ إليها الصحفي إجبارًا إذا قام بتغطية أحداث عنف أو صراعات، لحماية نفسه من الانهيار والصدمات، وما يتبعه من كرب ما بعد الصدمة، مثل:

  • الكتابة عن الحدث بشكل يومي عقب انتهاء الحدث الذي يغطيه، فيشرح مشاعره وأحاسيسه تجاه الحدث، خصوصًا لو كانت سلبية.
  • كذلك اعتبرت أن الحديث مع صديق أو أحد أفراد العائلة أمرًا إيجابيًا، لو كان متفهمًا لظروف العمل الصحفي، فالمناقشة قد تثمر عن تفريغ المشاعر، والتحدث عن الأوجاع النفسية.
  • والخطوة الثالثة بحسب توصيات “جودي” هي الأصعب، وهي اللجوء لاستشاري نفسي أو سلوكي، إذا شعر الصحفي بعدم القدرة على ممارسة حياته بشكل طبيعي. ومن أعراضها زيادة حالات العصبية، الثورة لأتفه الأسباب، رغبته في الانعزال اجتماعيًا، القلق، الشعور بالخوف الدائم، إلى جانب التوقف المؤقت عن ممارسة العمل الصحفي، لحين شفائه.

عفوًا لسنا آلات

نسبة الانتشار لاضطرابات ما بعد الصدمة لدى صحفيي الحروب وفق إحدى الدراسات 28,6%، وهي أعلى من نسبة الانتشار بين ضباط الشرطة، والتي تتراوح ما بين 7% إلى 13%

ما لا يدركه البعض أن الصحفيين ليسوا مجرد آلات تنقل الحدث كما هو، بل بشر من لحم ودم، يذهبون في نهاية اليوم لبيوتهم الصغيرة، عليهم أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي، والشعور بكل الانفعالات العادية مع عائلتهم أو أصدقائهم أو أقاربهم، عقب كل ما شاهدوه ورأوه من ألم وعنف.

فقد أثبتت دراسة علمية أجريت عام 1999 للجانب النفسي لدى الصحفيين، وتوصلت الدراسة إلى أن الصحفيين يصابون بكرب ما بعد الصدمة في معظم الأوقات، إذا كان نطاق تغطيتهم خاص بأحداث عنف أو صراعات أو جرائم. وقد بلغت نسبة الانتشار لاضطرابات ما بعد الصدمة لدى صحفيي الحروب وفق الدراسة 28,6%، وهي نسبة أعلى من نسبة الانتشار بين ضباط الشرطة، والتي -للمفارقة- تتراوح ما بين 7% إلى 13%، وأثبتت دراسة أخرى أجريت عام 2003، طُبقت على 875 مصورًا صحفيًا إلى أن 98٪ منهم يتعرضون للصدمات النفسية عند تغطيتهم للأحداث الصادمة كجزء من وظيفتهم اليومية.

لذا فالأسس التي تم تدريبهم عليها بأن عليهم عدم التأثر بالأحداث أو الاشتباك معها، وتقديم صورة مهنية -كما يروج البعض ليس فقط من خارج المجال الصحفي، بل أيضًا من العاملين داخل المجال- أسس ناقصة عرجاء بحاجة إلى إعادة النظر والدراسة.

ثم نندهش عندما يترك الصحفيون المهنة!

بل  يمكن وصفه بأنه أمر غير إنساني بالمرة، أن يُطلب من صحفي، لا يمتلك أي تأهيل نفسي، أن يتعرض لظروف غير اعتيادية، يختفي فيها عنصر الأمان، ويسودها الخوف والقلق، ثم يُطلب منه مرة أخرى أن يستمر في عمله، وكأن شيئًا لم يكن، فلا يتفاعل مع الأحداث، ولا يعبر عن مشاعره، ولا يتحدث عن الضغط النفسي الذي أصابه، بل وأحيانًا يجبر على الصمت بحجة المهنية.

ثم نندهش من زيادة أعداد الصحفيين الكبيرة التي أصيبت بالاكتئاب أو الهزات النفسية أو الصدمات، وأولئك الذين قرروا ترك العمل بلا رجعة، رغم موهبتهم الكبيرة.


نصائح للصحفيين فيما يتعلق بالتعامل مع كرب ما بعد الصدمة

  1. لا بد من أخذ فترات راحة كل فترة، ولا تكون لها علاقة بالإجازة الأسبوعية.
  2. ضرورة وجود مستمع حساس ومتفهم لطبيعة العمل الصحفي.
  3. تعلم التعامل مع الإجهاد، والاعتراف به.
  4. أن يعلم الصحفي أن استقراره العقلي يجب أن يكون بعيدًا عن الثقافة الصحفية الرصينة والجامدة.
  5. أن يحصل الصحفي على إجازة بعد تغطية أي حدث صادم، حتى يهدأ قليلاً، ويتمكن من الاستمرار في التغطية.
  6. التوجه لاستشاري نفسي أو سلوكي إذا تضاعفت الآثار النفسية، لتغطية الأحداث الصادمة، وأعاقت الصحفي عن ممارسة حياته الطبيعية.

لا تتوقف النصائح فيما يتعلق بالتعامل مع كرب ما بعد الصدمة على الصحفيين، فالمؤسسات الصحفية يقع عليها دور في تقليل الإصابة به وانتشاره:

  1. لا بد من زيادة الوعي بالجانب العاطفي والنفسي لدى العاملين في المجال الصحفي.
  2. أنسنة غرف الأخبار. فلا بد على كل غرفة أخبار التحقق من السلامة النفسية لكل صحفي يغطي الأحداث الصادمة.
  3. على المديرين الاستماع عن كثب للصحفيين العاملين معهم أثناء تغطية الصدمة، لمعرفة إذا كان يعاني من صعوبة في استكمال تغطية الحدث، أو يحتاج إلى الراحة أو حتى ترك المهمة.
  4. إعداد الصحفيين لتغطية الأحداث الصادمة، من خلال توفير التجارب التعليمية لهم، في سيناريوهات صدمة وهمية، لكي يستعدوا لأسوأ ما يمكن من أحداث.
  5. لا بد على غرف الأخبار أن تعطي تحذيرًا كافيًا حول شدة الحدث الصادم قبل دخول الصحفي إلى المشهد.
  6. توفير أخصائي نفسي في كل مؤسسة صحفية، يقدم للصحفيين المشورة النفسية والدعم اللازم عند حاجتهم له.
  7. تدريب الصحفيين على التعامل مع مشاعرهم والتحكم فيها في المواقف الكارثية، كذلك تدريبهم على التعامل مع الأشخاص المنكوبين عند تغطية الحدث، وذلك من خلال تلقي دورات تدريبية على أيدي متخصصين لتحقيق هذا الغرض.

وأخيرًا وليس آخر، لا بد من السعي لإنشاء مراكز لعلاج الصدمة واضطرابات ما بعد الصدمة عند الصحفيين، فالصحفي فى النهاية بشر وليس آلة.

اقرأ أيضًا:

ما هي أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟

الفرق بين كرب ما بعد الصدمة والاكتئاب

عن أعراض كرب ما بعد الصدمة: هل نحن كما نبدو عليه حقًا؟

كرب أمي

كرب ما بعد الصدمة عند الأطفال: أعراضه وعلاجه

من هي فريدة كاهلو: صدمات عديدة ورحلة علاج بالألوان

المقالة السابقةاحمي طفلك من النوراستينيا
المقالة القادمةماذا بعد رحيل الاحباب! كيف شكلتني تجارب الفقد والرحيل؟
إنجي الطوخي
كاتبة وصحفية مصرية

3 تعليقات

  1. Ιts like you learn my thoughts! You seem to know sо much about this, such as you wrote the guide inn it oor something.

    I think that you just could doo with a fеw % to force the
    message houѕe a little bit, but other than that, that iѕ ɡreat bⅼog.
    A gгeat read. I’ll definitely be bacҝ.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا