عام ١٩٩٧
كنت أجلس فوق كرسي دائري لا ظهر له، خلفي رول ورقي كبير لونه لبني ينسدل من الحائط للأرض، وحولي شمسيات بيضاء ضخمة مضيئة، أسند بكفَّي على قاعدة الكرسي، وأحرك قدمَي في كل الاتجاهات، “أعوّم” ليلف بي الكرسي، بينما تلف معي أمي على قدميها، أثناء تمشيط شعري. “يا بنتي اثبتي، يا ماما عيب كده الراجل مستنينا عشان يشوف شغله، استني أنزلك القُصّة”. يدخل الرجل ويعدّل لي ذقني للأعلى ويخبرني أين أنظر وكيف أبتسم، وقبل أن يبدأ في التقاط أول صورة، تهرول أمي نحوي لتمنعني من إزاحة القُصة عن جبهتي، وتحلّفني أن أتركها حتى نغادر الاستديو وتشتري لي حاجة حلوة.
عام ٢٠٠٥
كنا في العيد الكبير، وقد اشتريت بلوزة صوف بكتف ساقط وكم فضفاض، وبعد أن أمضيت الليلة كلها ألح على أمي أن أدخل فيلمًا في سينما المنيل القريبة من البيت، مع صديقة لي دون إشراف أبوي، وقتها كنت في الصف الثاني الإعدادي، كانت أمي تكره الفتيات “اللخمة”، التي لا تعرف الواحدة منهن كيف تختار ثيابها أو من أين تركب مواصلات لمكان ما، لذا تركتني أذهب ووقفت تختار معي ثيابي، وأمام المرآة وبينما أنا أضفر طرحتي الإسبانيش موضة ذلك العصر، وقفت تملي عليّ الوصايا العشر: “اوعي تقلعي شنطتك وتنسيها.. خلي فلوس في جيبك وفلوس تانية في محفظتك.. متمشيش تطوحي الشنطة في الشارع زي العيال.. بطلي تشدي في كمامك كده.. لو تُهتي وقفي تاكسي يجيبك وأنا هحاسبه.. مترديش على حد متعرفيهوش”.
عام ٢٠١٨
كنت معزومة على زفاف واحدة من صديقاتي، وطلبت من أمي أن ترافقني، وقفت أمام المرآة أشاهدها وهي تلف طرحتها، ثم قررت أن أضع لها كحلاً، وبينما هي ترفض وتعلل بسنها وبكرهها لمنتجات هذه الأيام، وجدتني أقول لها: “يا بنتي اثبتي، متقعديش ترمشي كده، يا ماما عيب كده، الراجل مستنينا (أوبر)، استني أظبطلك البندانا”.
عام ٢٠٢٠
بعد أن استقرت إدارة المصلحة الحكومية التي تعمل بها أمي على عملها يومين فقط في الأسبوع، في ظل انتشار الوباء وحتى إشعار آخر، كانت أمي تنتهي من لف طرحتها أمام المرآة، وقبل أن تصل يدها إلى منتصف الكمامة لتشدها، وجدتي أقطع عليها الطريق وأمليها الوصايا العشر، بينما هي تمشي بخطوتها البطيئة نحو باب الشقة، وأنا ألاحقها من يمينها ومن يسارها:
“اوعي تمسكي الكمامة من النص كده تعييكي.. يا ماما بالله عليكي ما تقلعيها لحد ما تروحي.. متسلميش على حد وتبوسيه بلا عيب بلا بتاع.. يا ماما لأ تحطيها في الشنطة لبكرة إيه! الكمامة بتتلبس مرة واحدة”.
لطالما كنت أقول إن عينَي أمي طفلتان لم تكبرا ولم تتأثرا بأي حزن أو ظروف، أمي عابرة للأجيال بخفة روحها وفضولها الدائم وحبها للحياة، تجلس بين أي فئة عمرية فتذوب بينها وتلتقط مفرداتها، وتتحرك بخفة بين النصح والسف والشخط إن أكل أحدهم قرب كنبتها الجديدة وهددها بالبقع.
إلا أن الأزمة الحالية جعلتني أدرك كم تبدلت الأدوار، ونمت بداخلي مشاعر أمومة تجاه أمي، عرفت الخوف الذي يرافق كونك الأكثر علمًا بالظرف، والذي ينظر له الأحباب بثقة، وينتظرون منه أن يفتح البرطمان الجديد ويجلب الغرض من الرف العالي، ويقرر أي كمامة هي الأفضل، ويقرأ تعليمات الدواء باللغة الأجنبية. فهمت حجم الخوف الذي شعرت به أمي وهي تختار مدرستي، وترفض ختاني، وتسمح لي بأول خروجة بدونها. فهمت حجم التردد الذي كانت تخفيه خلف كل إجابة تجيبها عليَّ، وأنا أقرأ قبل أن أصحح لها أن الفيروس لا يموت في الصيف يا ماما، وأن الثوم لن يقتل العدوى.
انسابت هذه التغيرات بخفة جعلتها خفية، قبل عهد الفيروس بأعوام، حين اعتدت أن أرد على مكالمات أمي خوفًا من العقوبة، وصرت أرد بلهفة خوفًا عليها من القلق، بل صرت أقيم الدنيا ولا أقعدها إن لم تجب هاتفتها هي. اعتدت أن أخرج مع صديقاتي هروبًا من شعور الطفلة التي تسحبها أمها خلفها، وصرت أتمسَّح في تلك الطلعات التي لا أنظر فيها على سعر الطعام قبل أن أطلبه، وأسرح في النافذة بلا هدف، دون أن أخشى نسيان الأجرة أو فوات محطتي، بل صرت أبحث في الشوارع عن مكان يناسب أمي وأكلة ستحب أن تجربها، وأحمسها للأسبوع المقبل، “لكِِ فسحة يا أنوس ستعجبك”.
فهمت كليشيه المسلسل العربي، عندما تجلس الأم إلى جانب صغيرها، تقول “يا رب اللي فيك ييجي فيا وإنت لأ”، حين صرت أفضل ببديهية إن كان لزامًا على كورونا أن تمر من بيتنا، فلتمر عن طريقي، فأنا أقوى أستطيع المقاومة، وجعها لن يكون بأي حال أكبر من الوجع الذي ستصوره لي مخيلتي عما يحدث بداخل جسد أمي.
اقرأ أيضًا: كيف جعلتني أمي سوبر هيرو