عن الهروب: ما بين “ليه لأ” وUnorthodox والأقرب للمصريات

1349

بقلم: هديل إسلام

الهروب هو رد فعل إنساني طبيعي عندما يتعرض الإنسان للخطر. وقد يكون أحد أشكال المقاومة، عندما يكون الخيار الآخر هو الإذعان والاستمرار. والهروب موضوع ليس بجديد على الدراما والسينما. لا شك أنه تيمة لذيذة حالمة، تجدد حلمنا كبشر (ومشاهدين) في طي صفحات الماضي المؤلم وفتح صفحة جديدة نحو عالم حالم يتحقق فيه المستحيل.

وربما هذه التيمة المشتركة -موضوع الهروب- هو ما دفعني إلى الربط ما بين مسلسل “ليه لأ” المصري، ومسلسل Unorthodox (الخروج عن التقليد) الأمريكي، رغم اختلاف التفاصيل كليًّا. أدعوكم في هذا المقال إلى مقارنة مختصرة ما بين العملين لاستعراض ما بهما من تشابهات، أو بالأحرى التباين بينهما، ووقع كليهما عليّ كمصرية تعيش في هذا المجتمع المصري الذي نعرفه اليوم بكل مشكلاته وتناقضاته.

نبذة مختصرة عن العملين

دعوني في البداية أقدم نبذة مختصرة عن العملين: “ليه لأ” هو مسلسل مصري يتناول قصة شابة ثلاثينية تهرب من زفافها، ثم تهرب من بيت عائلتها، بدافع الاشتراك في مسابقة تفرض عليها عددًا من الشروط حتى تفوز بجائزة 20 ألف جنيه إسترليني. أما الأمريكي “unorthodox”، فيتناول قصة فتاة يهودية قبيل العشرينيات من عمرها. تعيش ضمن طائفة الحاسيديم الكائنة على أطراف مدينة نيويورك، وهو مجتمع يهودي شديد التزمت، وتدفعها ظروفها إلى الهروب إلى ألمانيا حيث عُذّب وقُتل أجدادها بحثًا عن بداية جديدة.

الفرق بين البطلتين وحيثيات الهروب

يتشابه العملان في أن كليهما يبدأ بلحظة الهروب. لا نفهم دوافعهما لكن نعيش لحظات من التوتر سواء مع “عالية” و”إستر”، ويبدو أن الهروب في هذه اللحظة حتمي وأي خيار سوى الهروب هو بالضرورة خسارة أخرى. تنتهي الحلقة الأولى من المسلسل الأمريكي بـ”إستر” تنزل البحيرة بكامل ملابسها وتخلع الباروكة عن رأسها وقد فاض بها على ما يبدو. لحظة غاضبة وهادئة، إذ ترتمي بجسمها في الماء. هذه الباروكة تمثل أحد الرموز التي تربطها بعقيدتها. وهنا “إستر” تعلن تمردها على تلك العقيدة وعلى مجتمعها الذي أهانها على مستويات عدة. وهنا تتجلى لحظة التنوير بوضوح، هنا تعبر “إستر” الخط الفاصل بين عالمها القاتم وعالم النور في برلين متعددة الثقافات.

أما بالنسبة لـ”عالية”، فلا أعرف أي لحظة قد أعتبرها لحظة التنوير. ما الذي هربت منه “عالية”؟ ربما تحكمات أهلها، وهو سبب كافٍ للتمرد. شابة في الثلاثين تُعاقب بالحبس في غرفتها، بالتأكيد أمر يدعو للغضب والتمرد. ولكن “عالية” لم تهرب أو تترك بيت أهلها لهذا السبب، بل تركته اتباعًا لشروط المسابقة. ومن هنا تحولت “عالية” من الشخص التابع لأوامر العائلة إلى شخص منفذ لتعليمات المسابقة. تلك المسابقة التي نكتشف أنها مجرد زيف في رسالة ساذجة أن الكنز في الرحلة. أي رحلة؟! “عالية” لم تتخذ قرارًا واحدًا، حتى أنها لم تقرر التمرد على عمها لأنه بغيض ومتحكم، بل لأن ذلك شرط من شروط المسابقة. لو لم يكن هناك مسابقة، ماذا كانت لتفعل “عالية”؟ أين نقطة الانتقال بين العالمين إذًا؟

رسالة المسلسلين

دعوني هنا أوضح، نظرًا لأن مسلسل “ليه لأ” قدم نفسه باعتباره العمل المدافع عن المستقلات، ولكنه لم يكن أمينًا في نقل التجربة. فأنا هنا لست ضد تجربة الاستقلال من أجل الاستقلال. إذا ما ارتأت “عالية” أنها قد بلغت الثلاثين وحان الوقت لتكتشف عالمًا جديدًا خارج رحم بيت أسرتها كان سببًا كافيًا بالنسبة لي.

في المقابل، رسالة “Unorthodox” واضحة. “إستر” تخرج من المجتمع المظلم متمردة. تترك مجتمعًا يتشابه فيه البشر والمباني كأنه مجرد صورة واحدة متكررة، إلى مدينة منيرة وأبنية عصرية وذوات بشرة بيضاء وداكنة وعرب وإسرائيلية ومثليين ومغايرين جميعًا أصدقاء وجميعًا في نفس المجموعة. “إستر” تنتقل من عالم لعالم آخر، ولو أن المسلسل الأمريكي بالغ في مثالية العالم الجديد، كأنه رُسِم خصوصًا ليعكس قبح مجتمعها الأساسي.

العمل الذي احترم بطلته

أزعم أن أبسط صفات “اللي قادرة ع التحدي” أن تكون على دراية بما تفعله، أن تكون صاحبة قرارها، أن يكون لديها الاختيار. هروب “عالية” جاء تنفيذًا لشروط المسابقة، التي لا نعرف ماذا تعني لـ”عالية”. في وقت لاحق، تعترف “عالية” أن المسابقة ليست سوى حجة. وإذا كان الوضع كذلك، لماذا لم تفعل شيئًا نابعًا من إيمانها الشخصي، حتى أن قرار التطوع جاء بناء على شروط المسابقة. أو ترفض تطبيق أحد الشروط، لنرى “عالية” تنضج أمامنا وتكون صاحبة قرارها، تجد صوتها الداخلي وتقرر ماذا تريد بحق.

وهذا لا يعني أن الرؤية يجب أن تكون واضحة تمامًا قبل أخذ القرار. في أحيان كثيرة، أجسامنا تحركنا نحو أمر ما رغم عدم إداركنا للصورة الكاملة بشأنه. وهذا التدريج هو ما حدث مع “إستر”. جاءتها أمها قبل الزفاف لتمنحها أوراق الجنسية الألمانية. “إستر” ترفض المساعدة وترفض أمها شخصيًا لأنها خارجة عن قواعد المجتمع. لكن أمها تصر أن المرأة في ذلك المجتمع ستكون أكثر أمانًا إذا توفر لديها خيار آخر. ورغم الرفض القاطع، “إستر” تحتفظ بالأوراق وتخرجها في وقت لاحق عندما تقرر الهروب. إذًا الشخص المتمرد ليس خارقًا، بل يحتاج إلى بعض الإرشاد على الأقل في البداية. لكن تختلف قصة “إستر” عن “عالية” في حياتها ما بعد الاستقلال. يبدو جليًا أن “إستر” أسباب رفضها لمجتمعها واضحة، المجتمع لم يحترمها ومنعها عما تحب، وهذا تمامًا ما بحثت عنه في عالمها الجديد. وحتى بعد أن جاءها زوجها معتذرًا، رفضت، فحتى وعوده الجديدة لم تعد تسعها.

المعاناة تثقل التجربة

أحد أكبر أخطاء مسلسل “ليه لأ” أنه لم يروِ تاريخ البطلة ولو بشكل غير مباشر. في الحلقة الأخيرة خالة البطلة ومنقذتها تقول لها إن لولا الهروب، لكانت أمها ستضربها كل يوم. ولكن لم نرَ أي إشارة على هذا النحو. دومًا ما اكتفت أمها بالتبويخ والتقليل من شأنها. وأنا لا أستهين بهذه الأمور، ولكن إذا كان الفن مرآة الواقع، فهذه المظاهر لا تذكر مقارنة بالعنف الذي يتعرض له السواد الأعظم من المصريات.

أما عن “إستر”، ورغم لحظة التنوير الجلية، لم يكن الانتقال بين العالمين سلسًا، ظلت “إستر” عالقة في الكثير من المعتقدات التي تربت عليها. ولم يفتح العالم الجديد أبوابه لها بسهولة. “إستر” تبدو مجرد فتاة عادية غير مبهرة. تصيب وتخطئ وتحاول. عندما تعزف أمام أصحابها الجدد، يُقال لها لا تتوقعي أن تبهري اللجنة بعزف فتاة في العاشرة من عمرها.

“إستر” أيضًا كانت تسعى للحصول على منحة، ولكن طلبات المنحة ليست بسيطة مقارنة بـ”عالية”، وببساطة أن تتمتع بموهبة تستحق على أساسها أن تُعطى فرصة. ومن أين قد تأتي “إستر” بموهبة في مجتمع يرفض أن تتعلم الفتيات بالأساس. وهنا تكمن معاناة “إستر”، فحتى المساعدة التي قد يقدمها العالم الجديد مشروطة، ويجب أن تعمل بجد حتى تكتسب هذا الدعم وتستحقه.

لماذا “إستر” هي الأصدق والأقرب؟

قد ذكرت مسبقًا أن معاناة وتجربة “عالية” لا تعبر عن السواد الأعظم من المصريات، بل كانت تجربة “إستر” هي الأقرب. رغم أن الأحداث تدور في أطراف مدينة نيويورك، لكن وقعه علينا كشرق أوسطيات شخصي جدًا. من تفاصيل الزفاف التي تشبه كثيرًا ما يدعى بالزفاف الإسلامي هنا في مصر. والزواج المرتب وهو نسخة مطابقة من زواج الصالونات، فضلاً عن معاناتها بعد الزواج من شخص بالكاد تعرفه، وتدخل الحماة، والألم التي تعانيه في الممارسة الجنسية، ولا أحد يأبه بذلك، فالرجل هو الملك.

مشهد حلق شعر “إستر” طبقًا للقواعد اليهودية إذ تضحك وتبكي مع نظرات الذعر من الفتيات حولها، يلخص الكثير عما تشعر به تجاه مجتمعها. هذا التاريخ بكل ما يحمله من ألم لن يخلق تساؤلات عن دوافع الشخصية؛ الشخصية فعلت لأنها كانت تعاني، لأنها كانت بحاجة إلى النجاة، وحتى أنها لم تفكر بذلك إلا بعد أن أخبرها زوجها أنها ليست زوجة صالحة رغم كل شيء.

تفاصيل ليست بجديدة علينا كمصريات، وبالتأكيد سمعنا منها كل يوم في حكايات أصدقائنا وأصدقاء أصدقائنا. أما “ليه لأ” وقع في فخ إرضاء جميع الأطراف، فلم يرضِ أحدًا. كان من الممكن أن يمر المسلسل مرور الكرام، فإنه ليس المسلسل الأول الذي يتناول هذا الأمر، ولكنه أصر أن يضفي طابعًا نسويًا وكلمات رنانة، ما جعله يبدو ضحلاً وسطحيًا ومسيئًا للقضية.

بداية جديدة مستقلة

انتصار “إستر” كان في الحصول على منحة، فرصة للوصول إلى حلمها في الموسيقى، وحياة جديدة في مجتمع لن يتدخل فيما ترتدي وفي مواعيد دورتها الشهرية. انتصارها كان في أن تجد نفسها وتعيد تعريف كل ما تعلمته وتعرفه عن الحياة. أما انتصار “عالية” -كما قدمه المسلسل- كان في نجاحها العملي، وأنها تستطيع أن تتزوج رغم أنها مستقلة، في نهاية فكاهية طريفة. أهذا ما يحاول المسلسل قوله؟! “المستقلة بنت محترمة”! أهذه هي الرسالة؟!

وأخيرًا الاستقلال ليس الغناء في شوارع وسط البلد فجرًا، ولا إقامة الحفلات، ولا بالضرورة التمرد على مواعيد العمل الثابتة. الحقيقة هناك غير المستقلات اللاتي يمكنهن القيام بكل ما سبق، وهناك مستقلات ليس لديهن الطاقة للقيام بذلك، فالجري على لقمة العيش متعب والنجاح ليس سحرًا مهما كانت الموهبة، والطريق ليس ورديًا.

وأخيرًا كنت أتمنى أن نعيش في عالم تجد النساء فيه الحرية للقيام بما يحلو لهن، باعتبارهن بشر يجدن التفكير والتخطيط لأنفسهن، فلا يصبح الهروب ضرورة أو الاستقلال بطولة.

اقرأ أيضًا: ثلاثة أخطاء فادحة عن المستقلات وقع فيها مسلسل “ليه لأ”

المقالة السابقةهكذا جعلتنا كورونا أمهات أمهاتنا
المقالة القادمةBen is back: الأمومة التي لا تعرف الاستسلام
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا