– تعالي سلِّمي على عمتك.
– بس أنا بذاكر!
– خمس دقايق بس.
– تركيزي هيقل ومش هعرف أكمل.
امتعض وجه أبي وخرج بعد كلماتي تلك، كنت أشعر بمحاولاته لدفعي للحوار، والحديث بأي شكل ممكن، بينما أنا أسد الطرق في وجهه واحدًا تلو الآخر، بلا أي إحساس بالشفقة أو التعاطف، كنت أتحجج بمذاكرتي، وحال الطوارئ المفروض عليَّ بسبب الثانوية العامة، ولكن في الحقيقة كان الأمر شيئًا آخر، كنت في مرحلة الصدمة بعد وفاة جدتي.
الحياة من خلف لوح زجاجي
هل شعرت يومًا كأنك ترى الحياة من خلف لوح زجاج لامع ونظيف تمامًا، حيث تشاهد كل شيء وأي شيء، ولكن لا تستطيع لمسه أو الاقتراب منه؟ كان الأمر مشابهًا بعد وفاة تلك الجدة، المغرمة بأخبار نجوم السينما والتليفزيون، رغم سنوات عمرها الثمانين. عدت من المدرسة يومها في الساعة الثالثة عصرًا، وجدت المحل أسفل منزلها مغلقًا، فشعرت بالدهشة؛ هذا المحل الصغير لم يغلق يومًا أبوابه في هذه الساعة، كان “عم علي” مشهورًا بالدقة الشديدة، فعندما تشير عقارب الساعة إلى الثانية عشر ليلاً يُغلق الأنوار استعدادًا للذهاب إلى بيته.
عندما صعدت السلالم وجدت أمي تنتظرني على درجات المنزل، لأول مرة بملابس البيت، وتحضنني بقوة وهي تبكي، بينما تخبرني بوفاة جدتي.
تعرفي على: أجمل عبارات عن بيت الجد والجدة
ولكنها كانت الحياة بالنسبة لي
كان الأمر مثل المد والجزر الذي يغرق الرمال ثم ينحسر فيعيد تشكيله مرة أخرى، فمنذ هذه اللحظة تغيرت حياتي تمامًا، ولم تعد إلى سابق عهدها. كانت جدتي هي الحياة كلها، كانت محور الكون بالنسبة لي، رغم أنني كنت حفيدتها الشقية التي لا تسمع الكلام أبدًا مقارنة ببقية أحفادها، لكني كنت الحفيدة التي ترفض الخروج أو اللعب ليلة الخميس مثل أقرانها، لتجلس معها نتحادث، نشاهد التليفزيون، تحكي لي الحكايات عن أقاربنا الذين لا أعرفهم ولم أرهم مطلقًا، وعندما كبرت قليلاً، كنت أساعدها في ترتيب الغرفة والمنزل، وعندما كبرت أكثر أصبحت أنا من أرتب لها غرفتها وحدي في ظل مرضها المتزايد.
كانت جدتي هي صديقتي التي أرى الحياة بعينيها، وتعطيني معنى الأمان في الحياة، فكان غيابها بهذا الشكل المفاجئ أمرًا صادمًا، لم أستوعبه مطلقًا، كمن يختفي فجأة بينما يترك حاجياته كلها بنفس ترتيبها المعتاد، فتجلس أنت في انتظاره، بينما هو لن يأتي أبدًا. هذا ما فعلته الجدة التي زيَّنت شباك منزلها بصور نجوم السينما المصرية. هربت فجأة. ما زلت حتى الآن، عندما أتذكر لحظة معرفة أنني لن أراها مجددًا، أبكي ثم أبكي ثم أبكي بلا انقطاع.
ولكن مهلاً.. وقتها لم أكن أستطيع البكاء بهذا التدفق أو الحديث عن وفاتها مع أحد، فالصدمة والشعور اللا نهائي بالضياع جعلني غير قادرة على التفكير، أو حتى التأقلم على غيابها، فكان الانسحاب من الحياة هو الحل الأسهل، خصوصًا أن جدي هو الآخر كان قد توفي في بداية العام ذاته، وعلى الرغم من قلة كلامي معه، لكنه كان بالنسبة لي مظلة تتجمع العائلة في ظله، ويجبرها على الالتحام.
صدمة استمرت لثلاث سنوات
يقولون إن الحزن يبدأ كبيرًا، ثم ينتهي صغيرًا. لطالما أخبرني أبي بتلك الجملة، ولكن لم يحدث معي ذلك عند وفاة جدي ثم جدتي، بل على العكس بدأ الأمر صغيرًا، وصار يكبر حتى استولى على حياتي كلها.
في البداية انشغلت في البحث عن ملاذ آمن للهروب من وقع الصدمة، وكان الأمر بين صفحات الكتب، سواء قراءة أو مذاكرة، والصمت التام لأيام متتالية. ولكن تطور الأمر تدريجيًا، فصرت أخشى التحدث، بل أخشى الناس أنفسهم، حتى مع والدَي كانت الأحاديث مقتضبة جدًا وفي إطار الاحتياجات اليومية. لم أعد راغبة حتى في الخروج، ولم أعد قادرة على الشعور بشيء، من حزن أو فرح أو غضب أو أي شيء على الإطلاق، كأنني إنسان آلي أؤدي المطلوب مني من واجبات، ثم أدخل في نوبة بكاء قبل النوم. أما الشيء الوحيد الذي كان مسيطرًا عليَّ، هو ذكرى غيابها هي وجدى، وأن أسرتي انتهت وتفككت إلى غير رجعة.
حياة أشبه بالحياة، لمدة ثلاث سنوات متتالية، هو ما كنت أغرق فيه بصمت. لم أتحدث مطلقًا عن مشاعري أو إحساسي مع أحد من العائلة، حتى خالتي أو أمي لم أناقشهما في الأمر. أحيانًا كنت أشعر أنني أنتحر في صمت، فبعد وفاة جدي حاولت بشتى الطرق التغلب على صدمة فقده، وكنت أتعافى ببطء، ثم جاءت وفاة جدتي لتدمر كل تلك المحاولات، فأدرك أن الأمر فوق طاقتي، وأستسلم بهدوء، وأرفع الراية البيضاء أمام كرب ما بعد الصدمة، التي كان من نتائجها الخوف من الوحدة، ورهاب مرضي من فكرة غياب العائلة، يقتحم عليَّ كل لحظة في حياتي، ويدمرها تدميرًا، فلا يجعل مجالاً للفرح أو حتى السكون والهدوء. فقط هو الخوف من الفقد.
وعلى الرغم من أنني بدأت التعافي من صدمة وفاة جدتي وجدي مع دخولي المرحلة الجامعية، وعدت إلى ممارسة حياتي بشكل طبيعي، فإن تلك مخاوف تلك المرحلة صارت عفريتًا يطاردني لسنوات طوال، حتى شفيت منها.
اقرأ أيضًا: كيف شكلتني تجارب الفقد
آه من وفاة الأجداد
البعض يعتقد أن وفاة الأجداد أمر سهل، ولكن هل هو كذلك بالفعل؟ الحقيقة أن ذلك ليس حقيقيًا، ففي الطفولة المبكرة التي لا يتجاوز فيها الطفل سن الـ3 سنوات ، لا يكون لديه وعي أو فهم لفكرة الموت، ومن سن الـ3 إلى 5 سنوات يعتقد الأطفال أن الموت ما هو إلا انفصال مؤقت، ولكن منذ 5 سنوات وحتى انتهاء سنوات المراهقة يصبح تأثير الأمر أصعب وأقسى، وتجاوزه أمر ليس سهلاً، وعلى الرغم أن بلوغ المرء سن النضج، يجعل ارتباطه بأجداده أكبر، فإن إدراكه الواعي بطبيعة الحياة والموت يجعله قادرًا على تفهم وفاتهما، والتعامل معها.
وبحسب الكاتب “سيان سيج” في كتابه “وداع جدتي”، الذي يروي فيه حزنه العميق على وفاة جدته، وكيفية تغلبه على الأمر، خصوصًا أنها توفيت وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، “خلال فترة المراهقة خصوصًا، يمكن للأطفال الاتكاء على كتف الأجداد عندما يكونوا محرومين من الحب أو لديهم مشكلة في المدرسة أو مع آبائهم، أو عندما يواجهون متاعب، وغالبًا ما يقبلهم الأجداد كما هم، ويمكن أن يترك موتهم فراغاً كبيرًا في حياة الأحفاد وفي العائلة بشكل عام”.
لذا فإن فتاة في الـ15 من عمرها، تحاول التغلب على فكرة أن الدفء الأسري والاحتواء اللذين كانت تشعر بهما في وجود الجد والجدة، سيتلاشى إلى غير رجعة، وأن تجمعات العائلة التي طالما شعرت في ظلها بالأمان، صارت من الماضي الذي يجب التعايش مع غيابه. أمر كان صعب التأقلم عليه، خصوصًا مع عدم انتباه الأسرة للأمر، فقد كان أبي في نفس الفترة يحاول التغلب على وفاة جدي، بينما حاولت أمي تهوين الأمر عليَّ قليلاً، رغم حزنها على جدتي. هل اعتقد أبي في البداية أن عدم الحديث عن الأمر كثيرًا قد يساهم في تخفيف حدة الأمر؟ للأسف فعل. لا ألومه، فقد كان أبي يعاني في صمت، ولكنه انطلق بعد ذلك في محاولة تقديم الدعم لي بشكل غير ملحوظ.
نصائح لدعم الأطفال والمراهقين بعد وفاة الأجداد
بحسب آراء ونصائح المتخصصين، فهناك خطوات قد تساعد الأطفال والمراهقين على تجاوز صدمة وفاة الأجداد، وهي كثيرة ولكن أهمها:
- الحديث عن الأمر مع الأطفال والمراهقين، وشرح ماهية الموت بشكل بسيط يتلاءم مع مرحلة نموهم الحالية.
- نستخدم لغة واضحة في وصف الأمر.
- عدم تجنب الحديث عن الأمر، خصوصًا إن سألنا الطفل أو المراهق عن الأمر، ونشرح له أنه يستطيع أن يحزن ويبكي، دون أن يكتم مشاعره، فإن تجنُّب الحديث عن الأمر قد يسبب له هزة نفسية أو اضطراب في العاطفة.
- نساعده على إيجاد وسائل للتعبير عن مشاعره، سواء كانت باللعب أو الفنون المختلفة أو الكتابة أو الرسم أو حتى الغناء.
- نوضح له ونؤكد أنه غير مسؤول عن فكرة الموت.
- نخبره عن مشاعرنا أيضًا تجاه الفقد، فأحيانًا لا يكون لدى الطفل أو المراهق القدرة على التعبير عن نفسه أو مشاعره، فعندما نشركه معنا في مشاعرنا، سيشعر أن هناك تقديرًا لمشاعره ولنفسيته، ويستطيع الحديث عنها.
- نلتزم بالروتين اليومي للطفل أو المراهق كما هو، لأن أي تغيير في نمط حياته المتبع قد يساهم في زيادة الضغط النفسي عليه.
- نخبر من حوله سواء كان المدرسين أو زملائه في المدرسة، أو أصدقائه في النادي بما يمر به، حتى يتمكنوا من مساعدته وتفهم مشاعره وسلوكياته في هذه المرحلة.
- أحيانًا من المفيد بالنسبة للمراهق (من يزيد عمره عن 12 عامًا) أن يحضر مراسم الجنازة، مع شرح الطقوس والعادات المتبعة فيها، فهذا يساعده على تقبل فكرة الموت، والشعور بأنه ناضج. ولكن إن لم يرغب فى الأمر فلا يمكن إجباره (فأنا لم أستطع حضور جنازة جدي، وكان الأمر مؤلمًا بحق).
- رغم الألم الذي قد يشعر به الأبوان في تلك المرحلة، فإن من الضروري الانتباه لمشاعر أطفالهما في نفس التوقيت، فيجب منح الطفل أو المراهق الحب اللازم والرعاية، على حسب طبيعة شخصيته، سواء بالكلمات أو الأفعال، مع تأكيد عنصر الأمان.
- أخيرًا نشجعه على التذكر وتبادل الذكريات.
اقرأ أيضًا: 10 نصائح لمساعدة شخص يعاني كرب ما بعد الصدمة
نصائح للمراهقين والكبار في حال التعرض لصدمة فقد الأجداد
- تحدث إلى أفراد عائلتك عن وفاة أجدادك، سواء مع الوالدين أو الأقارب.
- لا تشعر بالخجل أو الخوف من التعبير عن مشاعرك، وخصوصًا البكاء أمام الآخرين، فإظهار الحزن والحديث عنه يساعد على الشفاء منه بسرعة.
- احضر مراسم الجنازة إن استطعت، فستشعر أنك قمت بواجبك تجاه جدك أو جدتك ولو بجزء ضئيل.
- تحدث عن الموت ومخاوفك منه مع أصدقائك المقربين الذين تشعر بقدرتهم على فهمك.
- اصنع ذكرى لجدتك أو جدك كتحية لهم، سواء كانت في صورة معلقة على جدار المنزل، أو لوحة مرسومة باليد، أو ألبوم صور يجمعكما معًا.
- قم بزيارة قبرهما إن استطعت ذلك. بالنسبة لي الأمر كان مهمًا في تجاوز وفاتهما، والحديث عنهما مع الأقارب خلال الزيارة.
- إن استطعت اكتب لهم جوابًا، تعبر فيه عن مشاعرك تجاه غيابهما، فهذا سيساعدك على الشعور بالراحة.
اقرأ أيضًا: كرب ما بعد الصدمة عند الأطفال: أعراضه وعلاجه
أخيرًا.. على الرغم من أن صدمة وفاة جدتي ظلت لسنوات كالجسر الذي لا أستطيع تجاوزه للعبور إلى بر الأمان، فإنني في النهاية استطعت التغلب عليها بالكثير من الجهد، مثل القراءة عن الأمر، والكتابة عن مشاعري تجاهه، والحديث المستمر عنها، خصوصًا مع أخي الصغير، والدعم النفسي والعاطفي من أبي، لأعود إلى ممارسة حياتي الطبيعية بشكل كامل، مع الدعاء لها يوميًا، وإدراك أن مفهوم شمل العائلة لم ولن ينتهي أبدًا، أما أكثر ما وعيته فكانت جملة “ستيفان سيج” في كتابه في “وداع جدتي”: “الأجداد هم محور الارتكاز العاطفي للأسرة”.
المصادر
I have been surfing on-line greater than 3 hours nowadays, but I never found any interesting article like yours. It¦s lovely value enough for me. In my view, if all site owners and bloggers made excellent content as you probably did, the web will be much more useful than ever before.
Very good written story. It will be helpful to anybody who usess it, including myself. Keep up the good work – looking forward to more posts.