تجارب أولى في المطبخ: محاولات النضج والخسارة

1185

كنت من الفتيات المتململات لاتخاذ قرار الزواج، خصوصًا بعد دأب كل صديقاتي المتزوجات على توضيح أن سنة أولى زواج -حتى مع زوج محب ومتفهم- هي من أصعب السنوات التي سأمر بها نفسيًا وجسديًا، فهي سنة تمتلئ بالتحديات على مستويات مختلفة. ولكن بعد تململ كثير اتخذت القرار، وطلبت من الله أن يساعدني، وطلبت من كل صديقاتي كذلك أن ييسرن الأمور بقدر الإمكان، باقتراح أي طرق مختصرة لإتمام الأمر، خصوصًا فيما يتعلق بأمور المطبخ. حيث أتعامل معه تمامًا كما تعامل كلومبوس مع الأمريكتين بأول أيامه هناك. كان كل أملي أن طرقهم المختصرة هذه تهوِّن من خضة المطبخ.

قررت بأول سنواتى الزوجية أن أدور وأنقب عن ذوي القدرات السحرية الجهنمية، ربما يكون لديهم دراية بأسرار المطبخ على غرار كتاب أبلة نظيرة، فأنا لا أريد لزوجي أن ينتهي كمسعود في مسرحية المتزوجون رابطًا رأسه ومرددًا بحزن “البؤساء”. ولمزيد من الشفافية فأنا لن أسرد طرقًا جهنمية لتهوين الأمر، ولكن سأسرد بأقل دراما ممكنة ما كان وما حدث بعد مرور سنة بالتمام والكمال، للحصول على لقب استحققته عن جدارة، وبعد طلوع روح، ألا وهو لقب “ست بيت”.

وبينما حباني الله بتفكير أنثوي مقعر جميل يجعل أزماتي ومشكلاتي تأخذ أكبر من حجمها بعقلي، وتلتف لتصنع وحوشًا صغيرة، سأحاول تلخيص هذه الرحلة لتقصير الطريق على من سيجتاز تجربتي قريبًا، فربما يجد بكلماتي طرقًا مختصرة تفيده، وربما بعض الطبطبة على الكتف ليشعر أنه ليس وحيدًا فيما يمر به.

المرحلة الأولى بعنوان: يا صغيرة على الهم يا لوزة

كـ”لوزة” أعترف أني مررت بهذه المرحلة التي أتحسر فيها على زهرة شبابي وأظافري الحبيبة التي تكسرت من غسل المواعين، ولكن الحقيقة أني تخطيتها سريعًا بينما كنت أستمتع بجمال النتائج، فبعد ساعات طويلة في المطبخ أحارب العديد من التوابل المتشابهة، كما أصارع دموعي بين أكوام البصل المقطع شرائح أو مبشور. والذي حتى الآن لا أرى أي فارق بينهما. فإن كنا نريد طعم البصل بالأكل فلنضعه ببساطة! مبشورًا كان أو حلقات فوجوده يكفي.

وعلى ذكر البصل، فقد تم اكتشاف أن هذا المكوِّن البسيط ساحر حقًا، كصديق وفيّ يشارك في كل مناسبة، فبين كل خمس وجبات ستبحث عن طريقة طبخها سترى أن لا غنى عنه في أربعة منها.

تعرفي على: أفضل كتب الطبخ للمبتدئين

المرحلة الثانية بعنوان: نستطيع فقط لو كانت لدينا الإرادة لنستطيع

بينما قضيت زهرة شبابي السابق ذكرها بين حملات التنمية البشرية، المحملة بالكثير من جمل التحفيز، فمع كل هذا التأكيد والإصرار المستفز كوننا “نستطيع فقط لو كانت لدينا الإرادة لنستطيع”! أي حكمة ملتفة تلك التي يغزوننا بها؟! فقد لا أستطيع لأن قدراتي لا تسمح، وهذا إنساني جدًا، فنحن لسنا أنصاف آلهة، لتكون لنا هذه القوة السحرية التي يسمونها قوة الإرادة المطلقة.

لا أنكر أن من حقنا على أنفسنا أن نحاول، حتى ولو اكتفينا بشرف المحاولة، كوننا اختبرنا حدود قدراتنا. بينما إن وقعت ضحية لمساعي المتحدثين اللبقين المتشدقين بلبانة التنمية البشرية هؤلاء فسينزعوا عنك إنسانيتك، فالله خلقنا بقدرات متفاوتة في بادئ الأمر، وستوِّلد فكرتهم المسمومة تلك المزيد من جلد الذات.

حقيقة الأمر أننا إن تصنفنا كشخصيات ذوي تفكير إيجابي وتنموي، فهذا أيضًا لن يجنبنا عدم اليقين بقدراتنا، ولكن بكل ثبات انفعالي. لكوني لم أملك سواه حينها، علمت أن الحياة ليست بهذا الوضوح وهذه السلاسة، وعليه تأكدت أن العالم ببواطن أمور المطبخ والذي سيمهد لي طريق الطبخ لن يكون له وجود على الإطلاق. سأجرب وأخفق وأجرب من جديد حتى يكتب لي الله النجاح.

تعرفي على: استخدامات الميكرويف: 14 شيء لا توضع في الميكرويف

المرحلة الثالثة بعنوان: كيف بدأ المطبخ ؟

بدأ الأمر حين قررت أن أصنع صينية كيك بالبرتقال، لتحسين المزاج المتقلب، بضخة من السكر تتوغل بعروقي آملة أن تعطيني بعض الطاقة وتزيح بعض الإرهاق والتوتر. كنت أقف أركز نظري على الفرن في انتظار أن تنضج صينية الكيك، ولكن بينما كانت عيناي على الفرن كان عقلي شاردًا تمامًا في أمور شتى.

كنت أعاني من متغيرات كثيرة بحياتي الجديدة، لأجدني فريسة للإرهاق النفسي، بل صار هو الثابت الوحيد بكل تلك المتغيرات اليومية من أحداث وانتصارات وانهزامات. عدت لا أطيق الوجود بين الجموع رغم كوني شخصية اجتماعية، وهذا لرغبة بداخلي في ترتيب أفكاري ومحاولة إيجاد سبل أسهل لإنجاز المطلوب. تحولت أفكاري تلك إلى وحش صغير ذي صوت أجش يؤنبني باستمرار بضرورة أن أنضج أكثر، فأصبح قادرة على التعايش مع الوضع، وربما هذه المرة بأريحية أكثر.

هكذا كانت الخطة دومًا، وهكذا تسرُّعي ورغبتي العارمة في أن أنضج حتى ألحق بالركب جعلني كصينية الكيك التي وقعت بأيدي فتاه تبدأ مشوارها بعالم المطبخ فتركتها لتنضج بالفرن وظنت أن وضع الصينية على مقربة من النار سيسرع نضجها.

ترى هل أنا فعلاً صينية الكيك تلك؟! صرت ناضجة تمامًا في أجزاء وبالأجزاء الأخرى لم تمسني النار، فلا زلت عفيفة الروح عن المضي بالدنيا لأتلوث بها، بينما تلك الأجزاء الناضجة تخيل للمتذوق متعة عارمة.

أعتقد أن نضجي الملتبس هذا طالما أوقعني في هواة آكلي اللحوم، أو الكيك. أعتقد أن نقصي هذا أو عدم إتمام تسويتي جعل لوجودي هالة تحيطه وتجذب كل المارة، ليشهدوا على هذا الكائن الخرافي الذي يسير ولا يحبو كما هو متوقع من كائن مثله لم ينضج على تمة عينه. بل بكل مجازفة منه قرر أن يجري، بينما ليس بحوذته قدمان أو حتى يدان، لكنه برغم ذلك يجري ويأبى التوقف، متناسيًا مظهره المضحك، متمسكًا فقط بحقه أن يعيش ويكون له حكايته الخاصة.

قالوا كثيرًا إن العالم قاسٍ. لكن أي قسوة تتعدى كسرة خاطر فتاة بأول تجاربها لصنع الحلوى، كنت أنا صينية الكيك الأولى لها!

المرحلة الرابعة بعنوان: اللي معاه ربنا يمشي على المية

كانت هناك صورة أحتفظ بها على هاتفي لمركب صغير جدًا يطفو على الماء، بينما كتب عليها: “اللي معاه ربنا يمشي على المية”. أتذكرها دائمًا عندما يتجاوزني الإرهاق والألم النفسي لدرجات أعلى مما اعتدت احتماله، لأترك نفسي وأستسلم لسحر الطفو معتمدة على الله، مع الحفاظ على أن أكرر بذهني جملة واحدة: ماذا سأخسر؟ سأجرب وليكن ما يكون!

المرحلة الخامسة والأخيرة بعنوان: صدق أو لا تصدق

استطعت أن أجد بعض التطبيقات السهل تحميلها على هاتفي لوصفات يومية سهلة وسريعة، بل وصرت على دراية ببعض التكات السهلة لإنجاز أطباق لطيفة تنقذ بطوننا وتتناسب مع وقتي الضيق، كما حافظت على أن تكون ذات مكونات رحيمة بقولوني وقولون زوجي.

صدق أو لا تصدق، البطاطس من الخضراوات الجهنمية التي من السهل تشكيلها وتحويلها واستصاغتها بسبل مختلفة، تصل بنا دومًا إلى نهايات سعيدة. لن أخفيكم سرًا إن نجاحي في إدارة حبات البطاطس لصنع أطباق مختلفة وشهية ألهمني في تعاملاتي اليومية، فصارت أقل إرهاقًا لروحي، فصار الإرهاق النفسي والجسدي، مثله مثل البطاطس قد لا يوحي للوهلة الأولى كونه عظيمًا، ولكن مع بعض الإضافات وطرق مختلفة لإدارته، جعلت قدراتي للتعايش تزداد وإرهاقي الجسدي صار ألذ ولا يمتلك نفس المرارة السابقة. على ما يبدو أني أتحسن في إدارة أزماتي نفس تحسُّني في إداري البطاطس.

صدق أو لا تصدق، اكتشفت أن الخضار والأرز ليس سيئًا على الإطلاق كما كنا نظن ونحن مراهقات بمنزل والدينا، نصبو للبانيه والمكرونة. لكن مع الوقت تعلمت أن الطبيخ جميل وحنون، تراه ينتظرك ليوم آخر ليسد جوعك، على عكس البانيه والمكرونة التي تنتهي في يوم واحد وتتركك لتحدٍّ جديد مرهق باليوم التالي. فبالتأكيد حبي للطبيخ تزايد مع الوقت كونه يستطيع أن يحتويني ويحتوي ضيق وقتي ويكفي لوجبتين في يومين.

صدق أو لا تصدق، صارت والدتي تسألني عن بعض التكات والحركات لإنجاز وجبات موفرة للوقت وذات طعم غني ولذيذ. وكأن سر الوصفة لم يكن حقًا بالمقادير ولا بالطريقة التي بحثت عنها كثيرًا، ولكن بما توصلنا إليه بعد عدد كبير من الإخفاقات والنجاحات. أتذكر عندما كنت صغيرة أحاول أن أردد كلامًا موزونًا على نهج الكبار وأتجمل بكوني أكبر من سني فتخرج الكلمات من فمي مضحكة لأنها لا تناسب سني ولا تناسب شخصي. ولكن الآن أتحدث بما أقتنع به وأعتقد أني كذلك أصنع أكلاً يليق بي ويناسبني بكل إخفاقاتي ونجاحاتي التي قادتني لوصفته النهائية. فأحب ما أفعل وأفخر بما توصلت إليه.

ست البيت بجدارة

ربما لا زلت أكن كل الكره لمحاضرات التنمية البشرية، ولكن الآن بعد أن وضعت حجر الأساس للقب “ست بيت” فربما إرادتي المطلقة لم تكن بهذا السوء، وها هي قد أرشدتني إلى سبيل لطيف ممهد بعض الشيء يصلح كنقطة بداية. أعتقد أني صرت ناضجة لأحيا، بعد أن تأكدت أنه لا يوجد سبل مختصرة للنضج، ولكن وحدها التجربة، بما فيها من تحمل للإخفاقات وفرح بالإنجازات هي ما ستجعلنا نحن. وسنصبح حينها أشهى من أشهى صينية كيك، وأحن من طاجن مسقعة، وأرهف حسًّا من بطيخة باردة مع جبن حادق بيوم صيفي حار.

اقرأ أيضًا: مطبخ المبتدئين

المقالة السابقةعلامات فقدان الثقة بالنفس، فقدان الثقة بالآخرين، علاج فقدان الثقة بالنفس
المقالة القادمةإلى مريم في بيروت: راح نتلاقى يومًا ما

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا