عادي

121

بقلم: روكسان رأفت

 

لأسباب معينة، يمكن بعضها راجع للفطرة وبعضها للتنشئة؛ بنميل في مرّات كثيرة للكماليَّة. و”الكَمَاليَّة” -ببساطة- هي أني بطالب نفسي بمقياس عالي جدًا من الأداء، يصاحبه جَلْد شديد للذات في حالة الفشل في تحقيق المعايير دي.

وبصراحة، بحسّ أن الكمالية دي موضوع مُعقّد؛ لأني مرّات مش بعرف إيه سببها بالتحديد؟ فمرات كثيرة بيكون السبب هو طريقة تعامل أهالينا معانا، وعدم قبولهم بشيء أقل من المستوى اللي هم أساسًا حاطينه غير منطقي وغير موضوعي. ومرّات ثانية بيكون عندنا ميل للانضباط الزيادة وطريقة تعامل المجتمع حوالينا اللي بتطالبنا بالصواب دايمًا وعدم قبول الخطأ، بتغذي فينا الصفة دي وتخليها متطرفة.

لكن كمان بشوف أنه من ضمن الأسباب اللي بتخلينا مرّات بنميل للكمالية هو “السوشيال ميديا” أو  الـ Fear of missing out. وده معناه ببساطة الخوف من فقدان شيء؛ الخوف من فقدان فرصة، الخوف من فقدان نجاح أو إنجاز، الخوف من فقدان متعة أو فسحة، الخوف من فقدان عرض أو خصم. وكأنه بقى لسان حال الحياة حوالينا الحقْ قبل انتهاء الفرصة، أو الحقْ قبل نفاد الكمية، الحقْ قبل ما تبقى متأخر أو قديم.

والفكرة دي لوحدها ضاغطة جدًا؛ لأنها بتخلينا طول الوقت متوترين وقلقانين، طول الوقت متابعين ومركزين، ودايمًا مش قادرين نقبل العادي! .. وهنا العادي كلمة مفتاحية جدًا؛ لأن العادي كلمة بقيت مش مُرضية لينا في معظم الأحيان!

“ثقافة الخوف من الفقدان” بقت هي اللي مُكتسحة أكثر من “ثقافة العادي”. بقالي وقت بفكّر وأتأمل في فكرة العادي دي، وكمان سمعت وقريت كام فكرة ساعدوني أقدر أفهم أكثر عن ثقافة العادي.

  • لو هنقارن بين العادي والممتاز احتمال فعلًا نُصاب بالإحباط. لكن لو هنقارن بين العادي والمفقود هندرك ونفهم أنه مش بس العادي جيد وكويس، لكن مرّات كثيرة بيكون العادي ممتاز. نعمة اليوم العادي اللي فيه أكل وشرب وسكن وغطا وهوا ونوم وشغل وتعب وراحة. يوم عادي في الدنيا مليان بمشاعر مختلفة؛ البعض منها بنحبه والبعض الثاني لأ! لكن يوم عادي لبشر عاديين، في دنيا منملكش كل تفاصيلها.

يمكن مش دايمًا بنأخذ بالنا من تفاصيل العادي؛ لأننا بنركز على ثقافة المفقود أو اللي نفسنا فيه، ولسه متحققش. لكن كمان محتاجين واحنا عندنا أحلام وأمنيات نأخذ بالنا أن اللي بنعيشه النهارده كان في وقت أحلام وأمنيات.

العادي سرعاته مختلفة

الكمالية وثقافة الخوف من فقدان الفرص مبتعملش اعتبار للتدرج المنطقي الطبيعي في الحياة؛ فبتاخد بس اللقطة اللي احنا شايفينها دلوقتي وتتجاهل الكواليس. لكن مش بس بتتجاهل الكواليس دي بتتجاهل باقي التفاصيل.

دايمًا بشوف أن سرعاتنا في الحياة مش منطقي وطبيعي تكون زي بعض! مش منطقي أننا ننمو ونكبر في نفس الوقت، مش منطقي أننا نكون لينا نفس الرغبات. ده حتى لما بنعيى بنأخذ وقت مختلف علشان نتعافى، فينا اللي بيخف بسرعة، وفينا اللي بيأخذ وقت أطول.

 

العادي برضه إنجاز

احنا ليه بنحتفل بس بالإنجازات الخارقة للطبيعي أو الكبيرة؟ ليه مش بتحتفل الأمهات أن اليوم عدّى كويّس، والعيال كانوا مبسوطين وأكلوا أكل حلو؟ ليه مش بنحتفل لما ننجز بس شغلنا والمطلوب مننا يوميًا في المعتاد بكفاءة وراحة؟ ليه لازم نحتفل لما نعمل حاجة ما اتعملتش أو كبيرة قوي؟ صحيح كلنا عندنا أحلام ونفسنا نحققها، لكن حلو أننا نعيش اليوم بيومه والخطوة بخطوتها، حلو أننا واحنا بنحاول ما نستقلش بالخطوة العادية.

 

ثقافة العادي ثقافة مُغايرة للي بيحصل حوالينا

في زمن وثقافة ما بقوش يؤمنوا بالعادي والطبيعي، وبيعتبروه أقل من المطلوب؛ طبيعي لازم يبقى صعب تبني ثقافة مختلفة. وأنا كمان مش سهل بالنسبة لي تبني ثقافة العادي، مش سهل بالنسبة لي وجود معيار مختلف عن السائد والمشهور. فعلشان نتبنى ثقافة العادي احتمال ده ما يكونش عادي، ولا مألوف ولا سلس. وممكن جدًا نلاقي مقاومة من الناس اللي حوالينا. لكنها فكرة مهمة وتأثيرها على الحياة مش بسيط، كفاية أنها بتخلينا أهدى، وسرعتنا أبطأ، ومتعاطفين مع نفسنا.

 

عادي أنه يكون عندنا أحلام، لكن كمالية أننا نسابق الزمن علشان نحققها.

عادي أننا نشتغل على نفسنا، لكن كمالية أننا مانصبرش ونستعجل.

عادي أننا نحاول نبقى عايشين كويس، لكن كمالية أننا نحاول منغلطش أبدًا.

عادي أننا بشر مميزين، لكن كمالية أننا نحاول نبقى أحسن حد.

عادي أننا نبقى عايزين نتحب، لكن كمالية أننا عايزين كل الناس تحبنا وترضى عنا.

عادي أنه يفوتنا حاجات، وكمالية أننا نسعى لكل حاجة.

ثقافة العادي بتخلينا هاديين، لكن الكمالية بتقطع نفسنا.

في عالم يسعى للكمال، خليك عادي العادي برضه يستاهل الامتنان.

 

المراجعة اللغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةنقاط بدلًا من نقطة
المقالة القادمةالكمال: سلاح ذو حدين 

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا