جدتي وحكايات المطبخ

2465

لبيت جدتي رائحة مميزة، يمكنني القول إنها شهية، تحمل ذاكرتي روائح وحكايات، أيام الجُمَع لا تُنسى وتحفر في القلب جدارًا صلبًا أستند عليه.

حكايات الجدة تدور عن عالم النساء اللاتي يجب أن يتم تمكينهن قبل الزواج، أيام جدتي لم تكن أدوات التمكين هي توكيد الحقوق والإيمان بالمساواة، لكن أهم ما زرعته داخلي أن تجيدي الطبيخ.

 

كل ما تعلمته في المطبخ يرجع إليها، تعلمته لأني أحببته وأحببت روائح الأكل الشهية التي كانت تصنعها، وعالمها السحري في المطبخ، حيث “وشوشة الملوخية” بكلمات سحرية لتعطيك الطعم المميز والرائحة، أذكر من تلك الوشوشات “حماتك جاتك جاتك مشنة عيش ما كفتك”.

تعرفي على: استخدامات الميكرويف: 14 شيء لا توضع في الميكرويف

لكني أذكر حكاية “الست الخايبة والملوخية”، تلك الحكاية التي أثَّرت عليَّ في طفولتي.

تحكي جدتي “كان ياما كان.. كان فيه ست لسة متجوزة وعروسة جديدة، وكل يوم جوزها يروح الشغل ويقولها اعمليلي الأكلة الفولانية. في يوم طلب محشي، خافت تقوله إنها مبتعرفش تطبخ، فضلت تعيط في المطبخ لحد ما جارتها سمعتها، وخبطت على بابها وسألتها ليه بتعيطي، فالعروسة قالتلها مبعرفش أطبخ وجوزي عاوز محشي، فالجارة الطيبة قالتلها ولا يهمك، وعملتلها المحشي قبل ما جوزها يرجع، وجوزها رجع لقى المحشي جميل. والعروسة خافت تقول إن مش هي اللي عاملاه، وتاني يوم طلب ملوخية، على طول خبطت على جارتها والست الطيبة عملتلها ملوخية وهو انبسط. كل يوم يحصل نفس الحكاية. لحد ما في يوم الجارة الطيبة زهقت وقالتلها إنتي شوفتيني وأنا بعملك الأكل جربي تطبخي لوحدك أنا مش هساعدك تاني، ولما جوزها طلب منها تعمل محشي جميل زي اللي عملته قبل كده معرفتش، والمحشي باظ، وجوزها لما رجع فضل يزعق، وطلقها لأنها مبتعرفش تطبخ، ولما عرف إن جارتها هي اللي كانت بتعمل كل الأكل الجميل ده اتجوزها”.

تعرفي على: أجمل عبارات عن بيت الجد والجدة

ظلت جدتي تحكى الحكاية مرات عدة للصغيرة، التي كنتها يومًا ونحن جالستان على الكنبة، وبجوارنا ملوخية، أنا أقطفها وهي تغسلها وتنشفها ثم تعود إليَّ بها لأخرطها، وأشعر بالملل الشديد من كثرة الخرط وأذهب لها بين لحظة وأخرى “خلاص يا تيتة”، فتجيبني بالنفي، وأظل أخرط حتى أشعر بالتعب فتأخذها وتكمل هي.

 

تشكَّل وعيي بدوري في المطبخ من حكايات جدتي، لم أفكر في مناقشة القصة حتى الآن، جدتي كانت ترى الزوجة الخايبة مجرمة وتستحق الطلاق، وترى الرجل مسكينًا تم خداعه.

 

بعد مرور ثلاثين عامًا على هذه القصة، أرى أن الرجل سيئ جدًا، والمرأة الخايبة غير ممكنة واعتمادية، والجارة شريرة ولديها خطة للإيقاع بالزوج، لأنها لم تخبرها من قبل أن تتعلم هي وجعلتها تعتمد عليها.

 

حكت لي جدتي عشرات القصص، لا أتذكر سوى هذه القصة، ولا أعرف لماذا أحببت المطبخ ولم أتمرد عليه، بل سكن في وجداني، “أقرب طريق لقلب أي حد معدته”، فالخبز والطبخ من أدواتي للإعلان عن الحب.

عندما شعرت بمشاعر حب تجاه زوجي قبل زواجنا وقبل أن يصارحني بمشاعره، خبزت له كعكة، وفي المرة التالية لهذه الخروجة صارحني بحبه.

 

لو أعدت حكي القصة لابنتي سأغير محتواها، لتصبح “كان ياما كان.. كان فيه بنوتة جميلة بتحب العالم والحياة، وبتحب تجرب حاجات جديدة دايمًا، ومبتتكسفش تقول معرفش، وبتعرف تطلب مساعدة وبتتعلم بسرعة. في يوم من الأيام البنت الحلوة اتجوزت ولد جميل بتحبه، وأكتر حاجة كان بيحبها فيها إنها بتحب تجرب حاجات كتير، وفي يوم طلب منها تعمله محشي، ضحكت وقالتله عمري ما عملته، وضحك وقالها بس أنا عارف إنك بتحبي التجربة ومتأكد إنك هتطلعي حاجة مختلفة.

 

بعد ما خرج افتكرت ريحة مطبخ جارتها اللي قدامها واللي دايمًا بتفكرها بريحة مطبخ جدتها، خبزت كيكة ودخلت للجارة اللي جنبها لقيتها شبه جدتها، جارة عجوز طيبة، قالتلها على الوصفة، ولما عرفتها فكرت تغيَّر فيها وتحط ملامح من عندها، وبعد ما خلصت المحشي ريحته كانت مزيج من روحها وروح جدتها وروح الجارة الطيبة. لما جه جوزها وداق الأكل حس بالسحر، فحكتله الحكاية فداب فيها أكتر”.

 

عندما سأعيد حكي القصة لطفلتي سأخبرها عن سحر الروائح، ومذاق الأكل، وسحر الخلطات، وذوبان القلب في المطبخ.

سأحكي لها عن سحر الخبيز، ورائحته التي تصنع في البيت بركة ودفئًا، وتخبر الآخرين أن قلب هذا البيت طيب.

 

ربما ستخبرني الصغيرة عندما تكبر عن سر سعادتها عندما نصنع كعكة معًا، وصخبها وهي تسكب اللبن على الدقيق فيتحول شكله، ثم تسكب البيض فيتحول أكثر، ويصير كائنًا آخر، لتصبح رائحته ذكية. نراقب الفرن لنشاهد الكعكة تنضج وتنتشر الرائحة في المنزل، فنهلل صخبًا وفرحًا.

 

سأخبر طفلتي أن لا تحب الطبخ كي تكسب قلب رجل، سأخبرها أنها عندما تحب الطبخ ستحب روحها أكثر، لأنها ستذوب في مقادير ما تطبخ، فتذوب في حب نفسها أكثر، فيجن بها من يحبها.

المقالة السابقة15 سببًا لحب الأفلام المصرية القديمة
المقالة القادمةما بين ونس الوحدة وإثبات الذات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا