نظرة إلى عقل مهووسة باللغة

734

رزان

ألا تشعر مثلي بأن الكون يستعيد ضبط نظامه عندما تقرأ شيئًا بالفصحى وتجد كل الهمزات في مكانها الصحيح؟ ألا تشعر بأن المقاطع الموسيقية التي تلمس شيئًا في روحك، وتظل عالقة برأسك حتى لو لم تستطع نطق اسمها، تماثل قصة سامحت فيها أن البطل لم يتزوج حبيبته ما دامت مكتوبة دقيقة لغويًا؟ ألا توجد علاقة بين الاثنين؟ إذًا، مرحبًا بك داخل عقلي.

 

درستُ الإنجليزية والعربية في الجامعة وبعدها، حتى أنني قررت البدء في دراسة الماجستير في آداب اللغة الإنجليزية، إلى جانب قراءتي بالعربية، وبذلك أصبحت مُلمّة بالاثنتين. هناك شيء ما سحري في طريقة نطق الإنجليز، الفصحى الإنجليزية البريطانية تحديدًا، للغتهم: تخيّل معي لفظة Exasperate التي تعني “يغيظ”، تخيل أن استخدامها حديث نسبيًا، إذ تتكرر في سلسلة هاري بوتر لج. ك. رولينج (المنشورة في العقد الأخير من القرن العشرين) بينما في رواية “كبرياء وتحيز” لجين أوستن (نُشرت في 1813) تستخدم والدة إليزابيث بينيت لفظة Vex التي لها نفس المعنى. أووه يا إلهي! طريقة نطق الممثلة للحوار المستقى بدقة من الرواية في المسلسل الذي عرضته الـBBC عام 1995 طريقة تفاعلهم جميعًا مع النص. كنت أشاهد المسلسل الذي يعدّه الكثيرون مملاً، تحديدًا لأجل الاستماع إلى اللغة.. نعم، يا سادة يا أفاضل، انطقوا أكثر وتحدثوا كثيرًا جدًا في أذنيّ! أريد قمعًا بحجم كبير ليجمع كل الذبذبات اللغوية الصادرة عن المسلسل، ويصفيها ويقطرها في أذنيّ، لتدخل مباشرة إلى عقلي فلا تهجره أبدًا.

 

قلت إنني مهووسة باللغتين: العربية والإنجليزية، وإن كان عقلي وقلبي يميلان مؤخرًا للإنجليزية، لكن نتيجة لدراستي وقراءاتي أصبحت أعمل مصححة لغوية للعربية، مؤخرًا. عملت في موقع يهتم بتقديم مقالات دقيقة علميًا ولغويًا للمستخدم العربي للإنترنت، وعملت مع “أميرة هيبة”، التي كانت تقتطع من وقتها وتلتفت إليّ في مكتبها الذي يلاصق مكتبي، وتعلمني شيئًا جديدًا عن الهمزات مثلاً. كنت أظن أني أعرف كل شيء عن هذا الأمر، وأنني بالتأكيد لا تفوتني فائتة، وربما كنت إلهة مصغّرة للغة! لكن أميرة بصبر وأدب رائعين كانت تعلمني أشياء جديدة، وأدركت بعد أول يومين في العمل أن التواضع شيء مهم جدًا، لأنه يعلمني معلومات لم أكن أعرفها عن شيء أعشقه: اللغة، فتواضعت وأنصتّ أكثر وتعلمنا الكثير معًا.

 

هل كنت تعرف أن همزة “أن” تُكسر بعد “حتى” و”حيث”؟ هل تدرك موسيقية أن تسمع نثرًا ينطقه عبقري يضبط التشكيل والإعراب ضبطًا تامًا غير منقوص؟ هل تعلم بهجة الاستماع لشِعر محمود درويش الذي يلقيه الشاعر نفسه، وهو يقف عند مواضع، يؤكد فيها فداحة المعنى للبيت الذي وقف عنده للتوّ، وعلى جمال اللغة في آنٍ؟ يمكنني تقريب الصورة أكثر:

هل تعرف مقطوعات راجح داوود، “كل هذا الحب” مثلاً، أو غناء أحمد منيب على العود فقط؟ الآن يمكنك إدراك حجم التورّط الذي أنا فيه في حب اللغة المضبوطة نطقًا وكتابة.

 

لكن كل هذا له جانب مظلم، لم أدركه من قبل: نتيجة للتعليم المتدني في مصر، فإن حجم الأخطاء المرتكبة في حق العربية الفصحى المكتوبة مجنون، كمية الأخطاء في أشياء تراها بديهية ولا تحتاج لحذلقة يمكن أن يصيبني بالخبال أو الفالج أو نزف مخي، أو أي شيء مشابه. ما المعقد في وضع الهمزة في “أن” و”أو” و”أمي”؟! لا أحتاج لعبقرية لغوية لأدرك أن الفاعل مرفوع، وأن اسم إن منصوب.. أليس كذلك؟

 

هنا تحوّلت أيامي في العمل إلى مجهدة ومملة وطويلة ومؤلمة، تحوّلت الصورة الذهنية في عقلي للعمل إلى أنه مكان لطيف جدًا، زملاء عمل لطيفون، مديرة القسم داعمة جدًا ولطيفة بالفعل، لكن اللاب توب الخاص بي، الذي أفتحه وأفتح المقالات لأدققها لغويًا، تحوّل إلى فتحة مظلمة تؤدي إلى “جانب النجوم”: كل الأشباح والعفاريت والديمنتورات، كل الوحوش التي تنهض صباحًا -على عكس قانون الوحوش الأزلي- لتنهش وجهي وتمتص روحي وتغرز مسامير مؤلمة في عقلي تجمعت، وأصبحت همًّا يوميًا: أزيلي المسافات الزائدة، أبدلي الهاء تاءً مربوطة أو العكس، ضعي الياء في الأفعال التي تخاطب الأنثى المفردة في المضارع والأمر، وكسرة فقط في الماضي، وغير ذلك الكثير جدًا.

 

أصبح الأمر يقف على أعصابي بشدة، توقفت عن قراءة الروايات بالعربية تمامًا، لأن في كل الطبعات هناك أخطاء، هناك دور نشر لا تعيّن مصححًا لغويًا أو تعيّن واحدًا لا يفرّق بين الياء والألف المقصورة، أو لا يعرف أن شبه الجملة تُعرب خبر إن المقدّم، ومن ثمّ فإن الاسم التالي لها منصوب عادي جدًا والله العظيم. صرت أستمع في ساعات المواصلات الطويلة إلى كتب مسموعة بالإنجليزية، على الأقل في هذه اللغة لا يوجد تشكيل، لا فاعل يُرفع آخره بالضمة أو بالنون أو الألف لو كان جمعًا أو مثنى، لا فارق في الهمزات، وليست موجودة أصلاً. المقرئ الذي يقدم الكتاب يؤدي كل الأصوات بحرفية رائعة ومُرضية جدًا، تجعلني أريد السفر إليه خصوصًا لأنحني أمامه أو أرفع له القبعة أو أنظر له بوَلَه كبير وأقول له “شكرًا” من القلب على إرضائه الخلايا العصبية المتحفزة أصلاً بداخلي، بنطقه السليم للغة.. صرت أكره عملي وأكره الفصحى وأكره كل شيء آخر في هذه الحياة.

 

إلى أن جاء يوم وقرروا فيه في العمل أن يقدموا دورة تدريبية في التصحيح اللغوي لكاتبات المقالات المنشورة على الموقع، ولي ولكل المهتمين في العمل. شعرت وأنا أجلس أمام “حسام مصطفى إبراهيم” أن مكانه جبل الأوليمب حتمًا، وأنه إله إغريقي عَبَر الأزمان والأمكنة خصوصًا ليقدم الراحة لمتعبي العقل أمثالي، وليعلّم الناس كيف يكتبون كتابة سليمة. أدركت حينها أنني يجب أن أترك التصحيح اللغوي للأبد، كي أستعيد علاقتي بالعربية، وكي أسترد سلامي النفسي.

 

الآن أحاول التعافي: ما زلت أكتب بالعربية، عدتُ مترددة للقراءة بها وما قرأته أرضاني إلى حدٍ كبير، لكن الأفضل أنني تعلمت التوقف عن النظر للناس على أنهم أجسام مشوّهة: هذا ينقصه ذراع مثلاً لأنه لا يكتب الهمزات، وهذا سقطت عنه كل رموشه -بالتأكيد سيحتار لو كان بنتًا؛ كيف سيضع الماسكارا؟!- لأنه يكتب كل شيء بالياء ولا يفرّق بينها وبين الألف المقصورة، والأدهى أنه لا يضع أي مسافات بعد علامات الترقيم، فأصبحت القراءة لما يكتبه تعذيبًا سيزيفيًا لأنه يرفض الاستماع للنصائح اللغوية ويسخر منها.

 

صرت أعي ما يفعله عقلي من تركيب صور مشوّهة على من يكتب الفصحى غير السليمة، صرت أحاول التعاطف مع الناس: ربما تعليمهم لم يسمح لهم بأكثر من ذلك؟ أو ربما الدنيا “تشيل وتحطّ” على رؤوسهم كما تفعل معي ومعنا جميعًا، في وطن غريب جدًا، فلا وقت لديهم للقراءة عن الكتابة السليمة أو تعلمها؟ أو ربما لا يحبون العربية من الأساس، بسبب مدرّس كرههم فيها لأنه معقد مثلي ويميل للسخرية؟

 

أصبحت أحاول ألا أصدر أحكامًا على من أقرأ لهم، لأنهم آدميون كاملون، ولا ينتقص منهم كونهم لا يعرفون القواعد الصحيحة للكتابة المثالية. وهذا أمر شديد الصعوبة، لكنني أعامل الناس كما أحب أن أُعَامل: بالغفران والمسامحة والنظرة الكلية الشاملة. “أنا لستُ شخصًا سيئًا يا روز، فقط أنا لا أهتم كثيرًا بالهمزات أو بما يقف على أعصابك، أنا لي مشكلاتي الخاصة. أنا مش وِحِش يا روز”، هكذا صرت أتخيلهم يحادثونني، صرت أعطيهم صبغة أكثر إنسانية في عقلي، كيلا أكرههم.

لذا، عزيزي القارئ.. ربما لو عرفت كيف أفكر ويفكر المهووسون مثلي، لعذرتنا.. أليس كذلك؟

المقالة السابقةعزيزي الزوج.. آخر مرة اشتريت هدية لمراتك امتى؟
المقالة القادمةالسعادة الزوجية والعنقاء والخل الوفي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا