عيش.. سكر.. وجع

515

منار

تم نشرة في 12/22/2016

وقت القراءة : 2 دقيقة

 

لم أكن يومًا من المهتمين بما يحدث على صفحات التواصل الاجتماعي، فأنا لا يعنيني في شيء ما يقول أو يفعل فلان، مثلما لا يعنيني ماذا غنَّت فلانة في ألبومها الجديد، ولكن كثرة تداول أغنية “عيش.. سكر.. وطن” أصابتني بفضول شديد، فوجدتني أشغل الأغنية، وعلى غير العادة وجدتني أتوقف أمامها، فهذه الأغنية هي لسان حالي، وظللت أسمعها مرارًا وتكرارًا ودموعي تغالبني، أحاول أن أمنعها ولكن لا أستطيع.

 

“هسيب المكواة دي لبكرة.. عشان تعبانة مش قادرة.. ده شغل البيت يهد الحيل”.

أفتح الفيسبوك أجد خبر ثاني انفجار خلال يومين، أحدهم فجّر قاعة صلاة في كنيسة ومات على أثرها وأصيب العشرات. أغلق وسائل التواصل الاجتماعي جميعها هروبًا من أخبار الموت ورائحة الدم. أنخرط في أعمال المنزل. أنظف المرحاض عدة مرات في اليوم الواحد وأعد كعكًا رغم شبح نفاد السكر الذي يطاردني.

 

أذهب إلى أمي لأشاهد معها قناة النيل للدراما وأتابع مسلسلاً يليه مسلسل.. أحفظ حوار العمل عن ظهر قلب ولكني أشاهده للمرة العاشرة. تسألني أمي عما حدث في حلب اليوم، فأخبرها مقلدة يسرا في فيلم مرسيدس “الكلام في السياسة بيتعب بشرتي”.

 

“حبيبي العيد خلاص قرب.. ف شيلِّي كام جنيه على جنب.. بلاش كالعادة تتهرب وتيجي تقولي وضعك صعب”.

يعود زوجي إلى المنزل، أتلاشى النظر في عينيه، أضع الطعام على الطاولة، أسأله كيف كان يومه، يجيب بابتسامة فاترة. فكيف كان يومه سوى أخبار عن الموت والفقد! هو لا يريد الحديث عما حدث قبل يومين في كمين شارع الهرم الذي يبعد عن منزلنا بأربعة شوارع، وأنا أيضًا لا أريد الحديث عنه. يخبرني عن وفاة أحمد راتب وزبيدة ثروت.. ألن ينتهي عام 2016؟

 

أطلب منه بعض المال من أجل شراء بضع أشياء لطفلتنا، يعطيني المال ويؤكد عليَّ عدم اصطحابها معي أثناء تسوقي.. يردد “سبيها مع ماما.. الدنيا برة برد”.

 

“بخاف على بكرة من بكرة.. وبخاف دايمًا أنا م الجاي.. وقلبي مات على فكرة لكنه مُصِرّ يظهر حي”.

هو يخاف على ابنتنا مما قد تواجهه بالخارج، وأنا أيضًا خائفة جدًا، خائفة على ابنتي من مستقبل مبهم في وطن يفقد ملامحه يومًا بعد يوم، ليصبح أشبه بمقابر العائلة القديمة، بجدارنها المنقوشة عليها أسماء الراقدين بداخلها، وأشجار الصبار والجريد المقبضة الشكل، التي آمنَّا جميعًا بأنها تلطف حرارة الجو وتقلل من عذاب المُتوفَّى في قبره، ولا مانع من شجرة واحدة تحمل أزهارًا وردية اللون تعطي طابعًا مختلفًا عن باقي الأشجار، من زرعها حاول أن يقلل من وحشة المكان ويضيف بصيصًا من النور، ولكن ما كان منها إلا أن شذَّت عما حولها فأصبحت مثل شبح مخيف.

 

أفكر مرارًا في مستقبل ابنتي، أبحث عن الفقاعة المثالية التي سوف ترحمها من الاحتكاك بمجتمع يعتبر إيلام الآخرين فيه روح دعابة، والتدخل في شؤون الغير نصيحة واجبة. أتخيل صراعي مع والدها لإقناعه بدفع آلاف الجنيهات التي لا نملكها لإلحاقها بمدرسة أنا نفسي لست مقتنعة بها، ولكنها أفضل الخيارات المتاحة. 

 

أتخيلني رحلت عنها قبل أن أزرع فيها القوة وحب المقاومة والقدرة على الاستمرار وسط كل ما يعيقها كأنثى تحيا في مجتمع ذكوري. أخشى أن أتركها وحدها مع أبيها فيدللها بشدة فلا تقوى على مواجهة العالم، أو أن يترك رعايتها لشخص آخر باحثًا عن لقمة العيش، فتنشأ مع شخص لا يملك كل تلك المخاوف، فتواجه العالم الموحش دون حذَر. أخشى أن ينتقل خوفي لها فتحيا مذعورة من كل ما يدور حولها، أخشى ألا ينتقل لها فلا تأخذ حذرها بالقدر الكافي.

 

“وهو يا سوريا ده الموضوع.. وطن بيموت عشان الكل مش سامع مش فاهم مش حاسس.. قال نفسي”.

 

أشاهد قناة ميكي، أقتبس بعض كلمات من أحد أفلام الكارتون، أكتبها على صفحتي على الفيسبوك، تعلق إحدى صديقاتي بأنها تحسدني لأَنِّي أحيا في عالمي الخاص لا أهتم بما يدور حولي، وتخبرني أن أبقى في عالمي بين أفلام الكارتون والمسلسلات القديمة.

المقالة السابقةرسالة إلى كشاف النور
المقالة القادمةطفلي المُحتَمَل.. صدقني الأمر ليس شخصيًا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا