بقلم: أمنية رضوان
أكتُب اليوم وقد التزمتُ العمل من المنزل منذ عشرين يومًا، عشرون يومًا تكادُ تجعلُ للأفكارِ صورة ملموسة، مجهولة الملامحِ لكنها ذاتِ أذرعٍ طويلةٍ تلتفُ حول رأسي، كما لو أنني “ميدوسا” من الميثولوجيا الإغريقية، الفارقُ أنّي لست وحشًا أسطوريًا، بل إنها أفكاري الحائمة حول رأسي، كوحشٍ استحال حقيقة، ترعرع على مهلٍ وخبثٍ في عشرين يومًا عكفتُ في بدايتها على إقناع ذاتي بأن كل شيء سيصبح على ما يرام.
هدنة العمل من المنزل
في البداية كان أمرًا رائعًا حد العجب، استلمت إخطار العمل من المنزل، في اليوم ذاته الذي كنت قد قررت فيه أخذ استراحةٍ طويلةٍ من العملِ خارج المنزل بدوامٍ كامل، وعليه تقبلت الأمر كهديةٍ من السماء، كفرصةٍ لا تُعوض لأُنقِذني من دوامةٍ كدت أغرق فيها، لم أكن أعلم أنها قد تكون طريق الانتقالِ من دوامةٍ إلى أخرى.
في كلِ يومٍ، مررتُ بكلِ شعورٍ قد يمر به أحدهم، شعرتُ بالامتنان لهذه الـ”هدنة من صخب العالم“، شعرت بهدوءٍ ذهنيّ، وشممت رائحة استشاطة ذهني أيضًا، شعرت بأن الله يبتلينا ليهذبنا، وبأنه غاضبُ علينا، تعجبتُ كيف يرون في هذه الحال “حبسة في البيت”، كيف يشعرون بالحبس لمجرد وجودهم مع ذويهم؟ كيف لا يرون في ذلك فرصةٌ رائعة لتدارك ما فاتهم؟ ثم أعود لأشعر تمامًا بما يشعرون! أرغب في الخروج من المنزل، ولا أكادُ أتحمّلُ دقائقٍ خارِجه، أتنقلُ بين اتصالٍ عبر الأثيرِ مع أولاد إخوتي حيث يؤكدُ لنا الصغير ذو السنوات الستة أن “مفيش فيروس ولا حاجة”، وبين متابعةِ أخبارٍ لأعدادِ وفياتٍ لم أشهدها سوى بكتب التاريخ، بين هذا وذاك، لولا الإيمان أكادُ أُجن.
رحلة الهروب من الواقع
أحاول الهروب، والعيش في مساحة آمنة وهمية صنعتها لمثل هذه الحالات، أنسحب داخلها وبحوزتي كل الملهيات الممكنة، أحاول العودةِ لهواياتي، أضيف فقرةً رياضيةً ليومي، أحادثُ الأصدقاء، أُغرق رأسي في مواقع الأفلام والمسلسلات، حتى يكادُ يظنُ من يراني -واضعةً قناعًا مغذيًا للبشرةِ على وجهي، بعد أن أعددتُ وتناولتُ فَطُورًا رائقًا- أنني لا أعلم بعد بالكارثةِ التي يمر بها بالعالم.
تنجح محاولاتي أحيانًا، ولكنّي أستيقظُ في وَسَطِ محاولةِ هروبٍ شبه ناجحة، أتصفحُ البريد الإلكتروني الخاص بالعمل، فأجدُ ملفًا ينتظرني لأترجمه، لطيف لطيف، المزيد من الإلهاء، أفتحه لأجد مراسلاتٍ حول “الظروف الاقتصادية جرّاء تفشي كوفيد-19″! تدوي إنذاراتِ فشل محاولة الهروب في الأرجاء، يتبعها صوت “مِرهف” قائلًا: “عودة للواقع”.
المنحة في طي المحنة
على صعيدٍ متصل، أعلم أنّي أَعدت الكثير من الحسابات، رتبت أرففي الداخلية، حظيتُ بفرصةٍ لاكتشاف الذات من جديد بلا مؤثرات خارجية، أصبحتُ أستيقظُ في هدوء، أعملُ عن بُعدٍ في هدوء، أًصلي على مهل، أعتني بنباتٍ للمرة الأولى، أجد الوقت كي أفكر فيما سآكل، فلا أتناول إلا المفيد، أنا التي لم يكن يخلو فطورها -اضطرارًا- من الدقيق الأبيض والزيت الغزير.
ولكني، في خلفية هذا كله، أشعر برأسي تكبُر فوق كفي بمعدلٍ أتوقع بالنظر إليه ألّا أقوى قريبًا على حملها. في خلفية هذا كله، يُصارع القلق السكينة، سكينةٌ لا منطقُ لها سوى أن الله رحيم، وأنّي بخيرٍ، وسيظل أحبتي بخير. وقلقٌ مفتول العضلاتِ يحملُ بقبضةٍ واحدة كل الاحتمالات المنطقية والحسابية والتي تشهد بأن الموتُ قريب، أكثر مما هو عليه بطبيعة الحال، وأن أغنى وأشهر شخصيات العالم لم تقف أموالهم ونفوذهم حائلاً بينهم وبين المرض، فكيف لنا –نحن البسطاء العاديين– أن ننجو؟ لا فرصة لدينا، سوى رحمة الله.
أُفكر في صديقتَي، طبيبتَي الامتياز، وما تواجهان يوميًا، فتستقبل خلايا مخي إشاراتٍ بأن أرمي هذه الفكرة بعيدًا، في أبعدِ زاويةٍ برأسي، لأنّ القليلُ منها قادرٌ على هدم جدرانٍ من الصلابة الهشة التي أواجهُ بها أيامي في هذا العالم الذي لا تنتهي محاولاته في الانتهاء.
هل بكرة بيخلص ها الكابوس؟
لا أعلم كم سيستمر هذا، وهل “بكرة بيخلص ها الكابوس” فعلاً؟ وكم ستصمد عقولنا إن صمدت حيواتنا؟ وفي معركة الإيمانِ ضد قسوة الواقعِ من سينجو، وإن نجوت بحياتي وعقلي وإيماني وأحبتي، فثمة وسواس قهري قد يلازمني طويلاً.
ولكنّي -وعلى كل هذا التخبط بين الشعورِ ونقيضه- أعلم شيئًا رائعًا، غريبًا مدهشًا قد نقضي ليلاً بأكمله في نعتِه بكل صفات العجبِ هذه، أعلم أني لستُ وحيدة، وأننا جميعًا -كل بني آدم- نشعر بالأمورِ نفسها، تساورنا المخاوف نفسها، نتشارك رصد الإحصائيات المفزعة مثلما نتشارك تمامًا الإيمان -على اختلاف الديانات والمعتقدات- بأننا سننجو بأنفسنا وأحبتنا، وأننا نشعر في كل ساعةٍ من كل يومٍ مر في هذه الأزمة، بالقلق والملل والسكينة والهدوءِ والفزعِ، وبكل شعورٍ إيجابي كان أو سلبي قد يعتري أحدهم.
وإني أكتُب الآن وأنا أعلم أنّ أحدهم يشعر بما أشعر تمامًا، وهو شعور -على ما يشوبه من أنانية- مطمئنٌ بلا سببٍ منطقيٍ مفهوم!
اقرأ أيضًا: في مواجهة كورونا فيروس: الخوف إعادة اكتشاف للقلب ودروبه