في مواجهة كورونا فيروس: الخوف إعادة اكتشاف للقلب ودروبه

993

يبدو الصمت مهيبًا، ذلك الذي يخيم فى الأجواء، بينما يخفي خلف الأبواب المغلقة الكثير من الخوف والقلق الإنساني، خلقه كورونا فيروس.  فيروس صغير لا يتجاوز حجمه 125 نانومتر، أي جزء من مليار جزء من المتر. أجلس في العزلة الذاتية بينما يمارس الصغير حولي المزيد من الصخب الطفولي الجامح. أتذكر فيلم room كيف جلست البطلة 7 سنوات كاملة مع صغيرها في عزلة، لا ترى بشرًا أو كائنًا من كان، فقط طفل صغير، لم تجد مقصًا لتقص شعره الذي وصل لمنتصف ظهره تقريبًا. لكن هل استسلمت البطلة لتلك الحالة؟ ألا تدفع العزلة البشر لحافة الجنون أحيانًا؟ البطلة لم تستسلم إطلاقًا، بل كان تمسكها بالحياة قويًا لدرجة أنها كانت تُعلِّم طفلها يوميًا، كل شيء عن الحياة، إن لم يكن بالتجربة فبالوصف.

كورونا فرصة

هل حقًا يتجلى دومًا الأمل في لحظات الألم؟ لا أتذكر قائل تلك العبارة، لعلها جملة لا تنتمي لأحد، فقط حقيقة بشرية، علينا جميعًا أن نؤمن بها، ونسلم بأنها قد تكون هبة من الخالق لنا. يبدو كورونا فيروس فرصة للبحث عن معنى الحياة الحقيقي، للإجابة عن أسئلة كثيرة، لطالما اعتبرناها مسلمات ورثناها، عن جدوى اختياراتنا، عن شكل حياتنا الذي نعيشه، ومدى مناسبته لنا، نجاحنا في التحليق بجانب أحلامنا، عشرات الأسئلة قبل أن ننفض ذلك الغبار الذي سكن قلوبنا لفترة لا بأس بها، في دورة الحياة التي لا تتوقف، لنسأله أهم سؤال: هل تفعل ما تحبه جقًا؟ هل أنت محاط بمن يحبك؟ أبتسم عندما أسمع سخرية البعض وانتقادهم للحظة الكشف تلك، يبدو الهلع في صوتهم، وهم يطرحون سؤالاً آخر: هل هذا وقته حقًا؟ والإجابة سؤال بلا إجابة: إذا لم يكن الآن وقته.. فمتى يكون؟!

الآن وقته

يدفع كورونافيروس الكرة الأرضية بأكملها أن تبطئ حركتها، أن تتريث قليلاً، أن تهدأ تلك الضوضاء الصاخبة التي يمارسها أبناؤها البشر، أن يقل التلوث بدرجة مذهلة حسب صور التقطها الأقمار الصناعية التابعة لوكالة ناسا، وكأنها تعيد تجديد رئتيها وشكلها، فلماذا لا نعيد تجديد أنفسنا نحن أيضًا؟ إن لم نفعل ذلك بإراداتنا فلنفعله بحكم انتمائنا إلى أمنا الأرض.

أن نطلب من الملل الانتظار قليلاً، وأن نُسكِت هذا الصوت السخيف بأنها نهاية العالم، وننظر لأنفسنا في عزلتنا نظرة مجردة، حقيقية بلا خداع ولا زيف، ولا كلمات تهليل من أصدقائنا، أو كلمات تبخس قدرنا من خصومنا، لنرى هل نفعل حقًا ما خُلِقنا من أجله أو ما أردناه لأنفسنا؟ من أخطأنا فى حقه خلال رحلتنا المجيدة؟ من تسببنا في إيذائه دون أن ندري؟

ليس سهلاً ولكنه يستحق

لا يبدو الأمر سهلاً، بل من الممكن أن يكون قاسيًا، ليس فقط بسبب صعوبة الأمر أو  بسبب تلك الأجواء المرعبة التي يصنعها البعض من خلال تقارير وإحصائيات وأحيانًا نكات عن نهاية العالم، بل لأن الأمر متجذر، لأننا صرنا نعيش حياتنا بحكم العادة والتقاليد، بسبب أننا نخشى أن نلقى خلال رحلة تقييم ذواتنا ما يغضبنا من أنفسنا، ويجعلنا نشعر بالذنب تجاهها.

أتذكر في إحدى فترات حياتي، كانت العزلة إجبارية بعد ظروف الحمل والولادة، كان الأمر مربكًا بالنسبة لي، فالصمت الذي كان يلف حياتي في تلك الفترة كان مختلفًا عن 10 أعوام من الركض المتواصل، وضوضاء لا تتوقف من الأصوات لأشخاص من حولي، احتلت مكان صوتي الداخلي بسهولة، حتى اعتقدت أنها صادرة مني.

أولاً: اكتشف نفسك

بدأت في البحث خلف جبل ضخم من تلك الأصوات والأفكار التي تسللت إليَّ خلسة، عليَّ أن أزيح صخور ذلك الجبل، وشرط النجاح الوحيد هو أن أقوم بالأمر بمفردي. بالفعل بدأت، وفي كل مرة أرفع صخرة، كنت أصل لاكتشاف جديد عن نفسي. حتى بدت روحي الحقيقية أمامي  كالنبتة الخضراء الصغيرة، التي تشق التربة السوداء الثقيلة، لترى الشمس. لم تكن الاكتشافات التي وجدتها عن نفسي كلها مفرحة، على العكس، بعضها كان حزينًا جدًا، بعضها كان يقول لي لقد أخطأت، والبعض الآخر كان يقول لي لم تستمعي إلى النصائح التي قد تفيدك. ولكن من قال إن تلك الاكتشافات كانت النهاية؟ على العكس لقد كانت البداية الحقيقية لكل شيء.

تفيدنا العزلة أحيانًا وعلى عكس المتوقع، في اكتشاف أنفسنا من جديد، لا شعوريًا سيتم الأمر. نبدأ في رؤية تلك التفاصيل الصغيرة التي كنا نمارسها دون الانتباه لها، سندرك تأثيرها علينا، تلك القرارات التي اتخذناها على عجل دون الانتباه لنتائجها، سنفهم دوافع البعض تجاهنا التي تسببت في حيرتنا يومًا، سنعرف من استمر على حبنا رغم مرور السنوات، ورغم تغيرنا، أما أهم نقطة هي فهم أنفسنا، وتقييم قدراتنا الحقيقية.

خلف خطوط العدو

تجلس البشرية الآن كالجنود فى الخنادق، التي قررت أن تحارب عدوها الفيروسي بالمكوث في المنازل. تقفز إلى ذهني تلك الذكرى من فيلم خلف خطوط العدو. قدم الفيلم قصة أعظم قناص في الحرب العالمية الثانية، ولكنه أيضًا قدم ما هو أهم من ذلك، أن الأحلام لا بد أن تستمر حتى لو كنت على شفا حفرة الموت. كانت البطلة في قبو وبينها وبين العدو الروسي بضعة أمتار، إلا أنها لم تتخلَّ عن أحلامها التي ستحققها بمجرد انتهاء الحرب.

ثانيًا: إعادة رسم الأولويات المنسية

إن سؤال “ما الذي أنوي فعله بعد انتهاء حالة الحظر والعزلة التي سببها كورونا؟” مُهم، على عكس ما يبدو من كونه سؤالاً خفيفًا رومانسيًا هزليًا. تلك الأحلام الصغيرة جدًا، التي قد تصل إلى الاكتفاء بعودة الروتين اليومي العادي عند البعض، تكشف كثيرًا من أولوياتنا في الحياة، وما نعتبره مهمًا لنا في الفترة القادمة.

ولا نقصد هنا شكل الاحتفال بالقضاء على كورونا فيروس مثلاً، أو شفاء آخر حالة مصابة به –وهو أمل لا نستطيع مقاومته- إلا أننا نتحدث عن سؤال إجابته الحقيقية قد تغير أولوياتنا في الحياة، قد تجعل الإنسان يكتشف أنه كان يفعل ما يريده حقًا، ولكنه لم يكن يقدر الأمر، أو أنه يفتقد قيمة ما في حياته معنوية مثل السعادة، النجاح، راحة البال، أو مادية مثل المال، أو أنه بحاجة إلى الحصول على الحب بعد أن ظل يقدمه لمن حوله لسنوات، أو على العكس أنه سيسعى إلى استعادة العلاقات المنسية في حياته أو المهملة مثل الأقارب والأصدقاء.. وقد تكون الإجابة هي ضمير المتكلم “أنا”، بعد الانغماس في روتين الحياة، وركن تلك النوتة المليئة بأمنيات وأحلام نرغب في تحقيقها.

إجابات كثيرة، إذا فكرنا فيها بعمق ولم نتأثر بمقولات “السوشيال ميديا” فستتغير حياتنا فعلاً، قد تجعلنا مستقبلاً نشكر كورونا فيروس لأنه لم يكن كله شرًا.

ثالثًا: الخوف يكشف دروب قلبك

أحاول الخروج من تلك الدائرة الجهنمية للأخبار عن عدد إصابات كورونا في العالم وليس مصر فقط، كأنني أتابع أهداف مباراة كرة قدم، طالت أكثر مما يلزم الأمر. أعتمد على سماع بعض الأغاني الهندية اللطيفة، أجد في إحداها البطل يخبر حبيبته بأن “لا فائدة من الخوف حتى لو كنت على حق، فقد كان هناك عشرات الخائفين من قبل، ولكنهم لم يعيشوا الحياة”، تأتي على الفور إلى ذهني جملة نجيب محفوظ في رواية “أولاد حاراتنا”:

الخوف لا يمنع الموت.. ولكن يقتل الحياة

يبدو القلق هو الوجه الآخر لحالة العزلة والحظر، أما الخوف فهو الوجه الحقيقي لانتشار فيروس كورونا، وانطلاق العالم في مقاومته، كلاهما يطرق الأبواب بلا استئذان، ولكن ألا يمكن استغلال هذا الخوف في شيء آخر؟ الحقيقة أن الخوف على الرغم من حِدَّته فإننا قد نستغله كسماعة طبيب للكشف عن قلوبنا، من نحب حقًا؟ من نتمنى قضاء أوقاتنا معه؟ مَن لا يمكننا الاستغناء عنه في حياتنا؟ من هؤلاء الذين تسببوا في حدوث عطب في مشاعرنا ويجب الابتعاد عنهم؟ وهكذا تتكشف حقيقة أن الخوف ما هو إلا إعادة اكتشاف للقلب ودروبه.

شكرًا كورونا فيروس

عندما أتحدث عن ضرورة تقدير البشر لظهور كورونا فيروس قد أبدو كأن بي مسًّا من الجنون، ولكن للشاعرية في بعض الجنون حياة. فإذا قاومنا حالة القلق المنتشرة في الأجواء، كأننا نقاوم العمى الذي سببه دخان طعام احترق، نساه صاحبه على الموقد، فسنستطيع حقًا أن نرى أنفسنا، ونعيد ترتيب أولوياتنا وحياتنا كلها، أن نقدم للقدير تلاوات شكر على نعمة الحياة، وأن نرسم على جدران الحياة درجات حتمًا ستقودنا  يومًا ما إلى أبواب الأمل.

اقرأ أيضًا: الحظر هدنة نرى بها قيمة الحياة

المقالة السابقةأثناء العمل من المنزل: لم يعد للأفكار متسع في رأسي
المقالة القادمةتعالي لنصنع كعكة لها رائحة الأمان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا