بقلم: مها محمد
عزيزي بشير.. كيف أنت الآن؟ ربما صرت أفضل بعد رائحة اللافندر التي ساعدتك على النوم بهدوء بعد يوم عملٍ طويل. أحببت أن أخبرك أن مشروعي الذي قدمتُه –رغم بساطة فكرته– قد حاز إعجاب اللجنة واجتزت الدورة التدريبية، وأخبروني أنني الآن بمستوى معلمة وجاهزة لتدريس المنهج للأطفال، ثم ذيلوا الرسالة بتنويه لطيف عن كلماتي التي أرفقتها بالمشروع أنها أعجبتهم وأدخلت السرور على قلب كل من قرأها، ثم أرسلوا لي الشهادة.
سعيدٌ لأجلي يا بشير؟ بالطبع ستقول “أجل يا عزيزتي أنا سعيد ولن أتوقف عن دعمك“، لكني يا بشير أعلم أنك كنت تأمل في أكثر من ذلك. أخبرني والدي يومًا في زيارة سريعة من زياراته لنا أنك كنت تتمنى أن تراني أبحث عن عمل أو أدير مشروعًا أو أقوم ببحثٍ، أو ألتحق بما هو أكبر من تلك الورش الصغيرة التي أشترك بها، وأمي تدفعني دائمًا في كلامها لأن أحقق ذاتي وأشغل وقتي بأمور تدر مالاً، لأحوز إعجابك ورضاها وهدايا أبي السخية، وأُغلق فم عمتي التي تتفاخر أمامنا بابنتها التي تزوجت ولم تتخلّ عن وظيفتها مثلي، فاشترت سيارة وأهدت زوجها ساعة سويسرية أصلية.
كنت أستمع إلى كلامهم بصمت ووجه مخيب لآمالهم، قلقت أمي على حياتي، ووالدي لا ينام، وأنت يا بشير أقرأ في عينيك الإحباط، وفي المقابل أنا لست قلقة على نفسي لأنني الآن أشعر بقيمتي أكثر من ذي قبل. أعترف في البداية أنني لم أكن أريد غير الاهتمام بطفلي وبك، وأن أحافظ على علاقاتي بالآخرين صالحة للاستخدام لأطول فترة ممكنة.
أقرأ كثيرًا عن الطفولة والتغذية والتعليم المنزلي والزواج السعيد، أقرأ عن إدارة الوقت وفن التفاوض وحل المشكلات، عن إزالة البقع وإعداد السلمون والمحافظة على المفروشات. أتذكر طوال الوقت أن بين يدي طفل يثق بي وأنني زوجة لرجل طموحٍ مثلك يستحق الاهتمام. صار الطفل ثلاثة، وغرقتَ أنت في عملك ولا زلتُ أنا أسابق الزمن وعقارب الساعات، وأشهد تعاقب الليل والنهار وأنا أركض طوال اليوم حتى لا أوبخ نفسي في المساء خشية التقصير في حقكم.
كانت قيمتي تعلو كلما رأيت أطفالي أصحاء معافين قادرين على اللعب واستيعاب الدروس والدخول معنا في نقاشات كالكبار. وثقتي بذاتي كانت تكبر كلما رأيتك صافي الذهن رائق البال مرتاحًا مقبلاً على الحياة، تملأ أرجاء البيت بنكاتك القديمة المثيرة للضحك والبكاء معًا. وما زالت أمي تحثني على البحث عن وظيفةٍ لأحقق ذاتي، وأبي يقض مضجعه جلوسي في المنزل عاطلة عن العمل، ولا أدري يا بشير إن كنتَ مع كل ما سبق تفكر في نفس الأمر مثلهم. ربما أكون قد أرهقتُ نفسي ونسيتُ أن أرفق بها، ربما.. لكنّ سعادتي كانت تزداد كلما كنت أقترب من الصورة المبهجة التي أراها لبيتنا.
كنت لسنوات أبحث عن أوقاتي المتاحة وأستقطعها عنوة، أو تهديها لي الأيام مفاجأة لأعتني بنفسي. لم يكن سهلاً عليّ أن أفقد كل انشغالاتي واهتماماتي ووظيفتي قبل الزواج، لتُختصر حياتي في بيت وزوج وأطفال وقليلٍ متاح لي. ومع مرور الزمن تمكنت بشراسة أن أسرق من اليوم سويعات من أجلي أجلس فيها بهدوء، أمارس فيها كل ما منعتني ساعات النهار أن أستمتع به. أشاهد برامجَ بشكل دوري، أقرأ، أكتب، أدرس وأتعلم،أكتشف هوايات جديدة، وأحتسي مشروبي الساخن وأنا أتأمل ما مضى وأترقب ما هو آت.
حصلت مؤخرًا على عمل بالقطعة أستطيع القيام به من المنزل، وأفكر جديًا في بيع مشغولاتي اليدوية، فهلّلت والدتي وصفق أبي فرحًا وكأن جلّ ما أفعل في حياتي ليس بأهمية أن أكون سيدة عاملة قادرة على الكسب، ذلك هو الأهم في نظرهم ومقياس نجاح المرأة.
وأنت يا بشير، كيف ترى الأمر من وجهة نظرك؟
أنا أرى في كل ما أفعل نجاحات يا بشير، فإن كنت تتمنى أن تفخر بزوجتك وأنت تقدمني في اجتماعاتك ولقاءاتك وتخبرهم عن وظيفتي أو منصبي الجديد أو مشاريعي العظيمة في مجال الهندسة الوراثية، فلن تجد كلامًا مثل هذا، لكني أتمنى أن تخبرهم بأنني زوجة تملأ حياتك وتقف إلى جوارك بقوة وتدعمك إلى الأبد، وأم لا تكل ولا تمل من العطاء، وفتاة لا زالت روحها تنبض بالمرح وهي في طريقها للأربعين، وسيدة تلتهم الكتب وتقدّر إنجازاتها ولو كانت مذكرات يومية وتدوينات مؤثرة وتابلوهات مرسومة وأعمال يدوية مميزة وطعام يصنع بحب وأفلام قصيرة تصوّرها تختصر لحظاتنا معًا.