هل شممت روائح المشاعر من قبل؟
أنا أشمها كل يوم في مساءات العزل الرائقة، تتسلل من الشرفات والنوافذ، حيث لا دفء أو أنفاس أو ضجيج في الشوارع، لا فرصة لبعثرة المشاعر، أصبحت كلها مركزة في البيوت. أستطيع أن أشم الخوف، رائحته مثل بخار “الكيتيل” سخونة مرتعشة. أستطيع أن أشم رائحة القلق، رائحته نفّاذة نديَّة، مثل رائحة الخشب بعد مسحه بالماء والكلور. أستطيع أن أشم رائحة الحنين مثل رائحة ثيابنا الصيفية في الخزانات في ضلفة البلاكار تحديدًا. أستطيع أن أشم رائحة الغضب مثل رائحة الفيشار وهو يطقطق على النار. أستطيع أن أشم رائحة التعاطف مثل رائحة سلم العمارة، مزيج تسبيكة طعام وكحول مرشوش. أستطيع أن أشم رائحة الملل مثل رائحة يد الحلة تحترق على النار ببطء.
رائحة الونس أشمها في ورق الكتب القديمة وخشخشة سوليفان الكتب الجديدة وفي الصور. رائحة الأمل أشمها في ندى الصباح ممتزج برائحة الخضر والفاكهة مع الباعة الجائلين، وروائح السيارات تعدو بخفة في الشوارع. رائحة السعادة أستطيع أن أميزها مع جلبة الأصوات والضحكات المترامية من البيوت كل مساء. ورائحة الحب أشمها في خلفية الاتصالات الهاتفية والكلمات المكتوبة ورنين الفايبر، رائحة تشبه الورد الذابل الذي لا يفقد خواصه تمامًا بالبُعد والحرمان.
لكن هل تعرف ما هي رائحة الأمان؟
تسألني ابنتي كل دقيقة: “أعمل إيه؟”، أعطيها عدة أفكار، تغيب لنصف ساعة وتعود بنفس السؤال، بعكس أخيها لم تستجب لنداء التكنولوجيا والتطبيقات والتشات واليوتيوب، ما زالت رغم سنواتها العشر تتبع البروتوكول القديم في اللعب. مما جعلني أنا محور هذا البروتوكول الأساسي. وأنا مثلما علمتني الحياة أقوم بدور ربة اللعب الملهمة، أعطيها مفاتيح اللعب، أبثها الأفكار وكأنها نابعة منها، دون أن أورط نفسي في اللعب طوال اليوم. لكنها في المساء تبدأ في الدخول في دوامات الحسرة على الأيام التي تمضي بلا خروج وبلا لعب. أرد عليها الرد الذي يجعلها تشعر بالأمان دائمًا: “تعالي نعمل كيكة”.
ابني حياته لم تختلف بالعزل، يقبع لساعات خلف شاشة الكومبيوتر، يعيش حياة كاملة مع أصدقائه على العالم الافتراضي، عندما نطلب منه أن يشاركنا اللعب أو الحديث يرفض ويقول: “أين توقيعي؟ أنا لم أوقع على هذا الكلام”. اضطرنا رده إلى كتابة عقد اتفاق بأن يقضي معنا ساعة كل يوم باستثناء وقت الأكل، للعب والحديث. والمقابل هو الحب. وقّع أخيرًا بصعوبة على العقد. لكنه رغم ذلك يبزغ أحيانًا من باب غرفته وعلى وجهه هذا التعبير بالانتشاء، كالقمر الشفاف الجميل الذي يظهر في السماء بالنهار. يحدث ذلك عندما يشم رائحة الكعكة.
هل عرفت رائحة الأمان، إنها رائحة البيت عندما تنضج الكعكة في الفرن.
هل جرّبت رائحة العطاء؟
في أيام السيول وكقاطنة جديدة بمنطقة جديدة ببيت جديد، لا أعرف الجيران ولا يوجد حارس للمكان. كان عليَّ وأنا بشعوري كمصطافة أكثر مني كصاحبة بيت، أن أتعامل مع شقة بلا استعدادات وعفش غارق في مياه المطر، وانقطاع الكهرباء والمياه، وأن أغلب المحال والشوارع مغلقة. وكل الأماكن التي أعرفها بعيدة مثل نجمة. أمسح أنا وأبنائي الأرض لساعات كلعبة جديدة ومغامرة يجب أن نخوضها لتنتهي. لكن قبل أن تبدأ الشمس رحلة الغياب، وفي خضم إداراتي المرتعشة للأزمة، أتاني اتصال مثل اليد التي تمتد عبر الصحارى لتربت على قلبك، مثل الشهاب الذي يجتاح داخلك المنطفئ، مثل اللون الأزرق الصافي الذي يخترق ألوانك الرمادية. “قبل أن يحل الظلام انزلوا لتمشية صغيرة تحت المطر الخفيف وابحثي عن شمع”. من قال إنك يجب أن تتحمل الجهد والوقت والمال لتنتشل أحدهم من أزمة؟ اتصال صغير حقيقي في الوقت المناسب قد يفعل.
يسألني أبنائي: “هي الشقة دي مالها؟”، كل الأزمات حدثت بمجرد أن انتقلنا إليها، لكن أنا أعتقد أنه كان التوقيت المثالي تمامًا لبدء حياة جديدة. نحن الآن نعاني معًا، وأجمل ما في العلاقات هي المعاناة معًا ومشاركة تفاصيلها، أعتقد أن علاقاتي بأبنائي تتجدد باستمرار بسبب مشاركتنا في كل قرار وكل جائحة. كل منّا مسؤول عن العطاء بقدر ما يأخذ. حتى أنا أعطيهم جزءًا من روحي وآخذ منهم محبتهم وقلقهم عليّ والشعور بالاطمئنان وسؤال “مالِك؟”. هكذا يحدث التوازن في العلاقة. رائحة العطاء كانت دائمًا هي رائحة الأشياء التي تبعث فيّ الامتنان.. فنجان قهوة، كوب شاي باللبن، قطعة شوكولاتة، خمسون جنيهًا منسية في جيب ما.
لديَّ طريقة غريبة لمقاومة الأزمات والأحزان، اكتشفتها عندما كنا في طريق صحراوي مظلم وبنزين السيارة شارف على الانتهاء، كان هو متوتر جدًا، قلت له: “تعالى نلعب لعبة إلى أن نجد بنزينة”. وبدأت فعلاً في اللعب. نظر لي شزرًا وانتهى الموقف بخناقة ثم بمعايرة دائمة وترديد لقصة الطفلة التي كانت تريد أن تلعب على طريق صحراوي بينما بنزين السيارة في طريقه للنفاد. يوم أن عرفت أن عملي سينتقل إلى مكان بعيد ولا يوجد رؤية واضحة لوضعنا فيه، كل زملائي كانوا في حالة يرثى لها، أنا كنت ألعب على هاتفي في صمت، الحقيقة أني كنت الوحيدة بينهم من لا تملك سيارة وقتها، ومع ذلك قلقي تشكّل على هيئة لعب. أذكر في فيلم life is beautiful عندما وظّف البطل خياله الخصب ليساعد عائلته على تجاوز مرارة الاعتقال والسجن، وهيأ لابنه أنه في لعبة وعليه أن يكسب. أعتقد أن كل شيء يمكن مقاومته بلعبة.
في هذه العزلة أنا لست معزولة تمامًا، أفعل في البيت كل ما أحب أن أفعله. أتعجب من شعور الناس بالملل! أي ملل؟! هناك مئات الأشياء في رأسي بحاجة للتنفيذ. أتعجب من توقعاتهم بالشجار الدائم بين الأسرة الواحدة. إن الأزمات هي أكثر ما يقرب الأفراد من بعضهم. في هذه الأيام أنا لا أبحث مثل أغلب الناس عن الأمل والطمأنة، كل ما أريده أن يمضي الوقت بخفة ولطف، لو كانت الحياة سفينة تايتنك فأتمنى لو أقوم أنا بدور العازفين. أذكر أنني كنت في لقاء لإنهاء علاقة ما، ومن بين العتاب والبكاء، سألت الطرف الآخر: “إيه رأيك في فستاني الجديد؟”، أنا لا أستطيع تحمل الحزن تمامًا، لا أقدر على وطأة المصائب الكبيرة، أحاول دائمًا أن أجد مخرجًا صغيرًا يلهيني عن الواقع. حتى لو كان أن أصنع كعكة. كل امرأة تصنع كعكة هي بالضروروة امرأة تبحث عن رائحة الأمان وتريد أن تبثها في كل من تحبهم.
اقرأ أيضًا: قبل نهاية العالم بقليل
مقال رائع
أشعر أن كاتبته كانت تراني او تعرفني وتتحدث عني انا اشبهها كثيرا
عجبتيني جدا في إيجابيتك وتفاؤلك، وريحة الأمان اللي شميتها في مقالتك
رائع جدا و مبهج قوي .. بارك الله فيك❤
تشبيهات جميلة جدا ومعبرة وصلت الاحساس للقلب بسهولة شكرا لك ننتظر المزيد