أتذكر جيدًا آخر يوم في الجامعة بينما كل الأصدقاء يبكون لأن الأيام ستُفرقنا وتُباعد بيننا، في حين أنني الوحيدة التي تضحك من قلبها لأن أخيرًا انتهى عصر الاستعباد وذهبت الكلية بغير رجعة.
كانوا يستعجبون لماذا لا أحزن على العِشرَة مثلهم! فأُردد -بمنتهى الثقة- إن الذين يُريدون البقاء على اتصال في حياة بعضهم بعض سيستطيعون فِعل ذلك، سواء باعدت بينهم المسافات أو الاختيارات أو تغيرت حالتهم الاجتماعية… إلخ… إلخ.
“كُنت مُغفلٌ”.
فعلاً ظلت علاقتي قوية بمن أردت البقاء على اتصال بهم لسنوات، ثم شالتنا الحياة وهَبَدِتنا طاخ طوخ طيخ طاخ كل في اتجاه، وعلى كثرة سُبل التواصل الاجتماعي قَلَّ الاتصال وانعَدَمت الرؤية وتَبَقَّت مَعَزَّة في القلب وذكرى بعيدة تَصحَبُها تهانٍ أو تعازٍ -حسب الموقف- نتشاركها كالغرباء لكنها تُشعرنا -ولو قليلاً- أننا ما زلنا في حياة بعضنا بعض.
على طول حياتي كان لي -دومًا- الكثير جدًا من الأصدقاء، بل أن العدد ظَلَّ -وما زال- في تزايد مُستمر. بالطبع ليست كلها علاقات حميمية، غير أن هذا لا ينفي أن عدد العلاقات القوية منها ليس بقليل.
كنت دائمًا أتخيّل نفسي بعد أن كبرت وكَبُر أصدقائي المُقربين، فأرانا ما زلنا مجتمعين نضحك ونتذكر ما يمكن تذكره -قبل أن تُصيبنا لعنة الزهايمر المُبَكِّر- ألمح وجوهًا بعينها هناك في الصورة البعيدة، وجوه ليست كثيرة رُبما 5 أو 6 لكني كنت على يقين من أن هؤلاء هم من سيبقون لما بعد الأبد.
ثم حدث الصدع الأول، والذي لم يكن من جانبي، فبذلت قصارى جَهدي لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه ورضيت بالقليل بعد أن كان لديّ ما هو أكثر، ثم بطبيعة الحياة فَتَر كل شيء ولم يُزدني هذا إلا إصرارًا على فكرة الحفاظ على العلاقات، وأن البقاء أو الرحيل مسألة اختيارية شرطها الوحيد أن يكون القرار متطابقًا عند طرفيها.
مرت السنوات وحدث الصدع الثاني في علاقة أخرى مهمة أيضًا، لكني لم أُدافع كثيرًا تلك المرة أو أبذل كل طاقتي بسبب استنزافي -وقتها وحتى الآن- في أولويات أخرى لم يكن من الممكن أن يتم تأجيلها أو رمي حِملها على طرفين كالصداقة، فخسرت الرهان مع نفسي قبل الآخرين. وهنا انكسر شيء ما جعل كل ما أتى بعده عاديًا، غير مُهم، قد يكون بائسًا لكنه غير مُوجع!
أثقلتنا الحياة بالهموم الفردية والاجتماعية، بل والسياسية بدري بدري، أو لعلنا نحن أصحاب القلوب الضعيفة من لم يتمرنوا في الصغر على العمل كبهلوانات في السيرك يرمون الكُرات المُلونة بالهواء ثم يعرفون كيف يلتقطونها كلها في آنٍ واحد.
كبرنا وأصبح علينا ألا تُفجعنا الخسائر كي لا نُزيد أعمارنا انهزامًا، كُتب علينا ألا نتيقن من أي حقيقة إلا الموت، وتحوَّلت القدرة على الاستغناء إلى نعمة نحمد الله عليها، ولم تعد أكبر الخيانات -كما علّمونا- النسيان.
أجلس اليوم أُحاول أن أرى نفسي بعد أن كبرت ثم أتَخَيُّل جلساتي المستقبلية مع صديقاتي، إلا أنني لا أستطيع رؤية الوجوه هذه المرة، حيث الصورة ضبابية. أعرف أن هناك آخريات جالسات معي، أسمع ضحكاتهن وأرى لمعة أعينهن تعكس دموعًا من فرط الضحك أو فرط الوجع، لكني لا أستطيع أن أُجزم بأني أعرف أسمائهن، فقط هن موجودات هناك، ينتظرنني أن أكبر لأصل إليهن.