فن الإنصات لله

424

في دوائر فن الاتصال نمد بيننا خيوط الحديث ونمهّد أراضي من الكلمات نتبادلها فى روابط من التحدث والإنصات، نتقن بناء عالم ممتع شيق من الأحاديث المهونة عن الأنفس.. المهدئة للقلوب المنهكة، كبشر ساندنا بعضنا بعضًا في لحظاتنا القاتمة التي نبتعد فيها عن أنفسنا فلا نسمعها.. نجد دومًا تلك الآذان القادرة على امتصاص حكاياتنا المملة أحيانًا.. المعادة غالبًا.. والمتجددة كثيرًا، ونمنح آذاننا للبعض تعويضًا عن قلة حيلتنا في الفعل فنكتفي بالاستماع لهم باهتمام أحيانًا وبتأفف غالبًا وبجبر خواطر كثيرًا.

 

عن الله جلست أفكر، في فن الاتصال بيني وبينه، روابطي معه وأحاديثي الراجية منه كل شيء تقريبًا.. عن الله صرت أبحث.. في كلماتي المحفوظة وابتهالاتي البديهية وخواطري التي فقدت الإحساس في لحظة عجز فابتعدنا، وكنت أنا البادئة.

 

لا أدري أين ذهب الطريق إليه.. فقدته وأفقدتني إياه الحياة الشاغلة، كنت أرى الطريق دومًا متيقنة من وجوده في ذات المكان كما أعهده، ولكنه ذهب، ولم يذهب يقيني بعودته حتى بعد أن كففت عن الحديث وخبت القدرة على الكلام وحل عليّ صمتًا ثقيلاً مؤقتًا.

 

في رحلة روحانية أخيرة جاءتني القدرة على التحدث مع الله، ردها لي.. استرجعتها عالمة أنه لم ييأس مني وسينصت إليّ كما اعتدت منه، يحبني لحوحة في الطلب.. كثيرة في الدعاء، مفرطة في الحكايا.. يحبنا كلنا على هذا النحو، وأتممت ذلك على الوجه الأكمل وكأن فترة انقطاعي عنه جعلتني أحتفظ بالكثير لأبوح له به حتى مع إحاطته بكل ذلك علمًا.. اقتنصت فرصتي أخيرًا للثرثرة، مددت الطرق بيني وبينه وزينتها بأحاديث مليئة بالرجاء والشكوى والأمل.. حكيت له عن صبري النافد وحيلتي المكسورة، حكيت له عن أخطائي المكررة وهمومي المتراكمة في يومي المعاد دومًا.. تكلمت معه عن فرحتي بأسرتي الصغيرة وهالة ابنتي التي تحوطني.. سألته الحماية وغلاف من رحمةٍ ويقين يدثرني به لو ضللت الطريق يومًا.. شكرته على الفرحات التي نثرها من حولي والتي نسيت أن أشكره عليها حينها.. شرحت له كيف سأغير كوني الصغير ورجوت منه العون.

 

تحدثت مع الله بعد أن أرسل مفاتيح لقلبي المُغلق.. فتحت أبوابه بها وصرت أستخرج منه كل ما تكوّم فيه على نفسه، حتى خلا قلبي من “كراكيب” الهم وازدادت المساحات المُنيرة بداخله، قادرة على استيعاب أحداث جديدة وحكايات جديدة وتفاصيل جديدة.

 

فضفضت له بكل ما أشعر به وأخبئه عن نفسي حتى انتهت الأحاديث وجاء الصمت مرة أخرى.. جربت أن أعيد عليه كل الحكايات من جديد ولم أفلح.. حاولت وفشلت وأصابني خوف من أن يستدرجني الصمت إلى أراضيه كما فعل سابقًا ولكن الله طمأنني كثيرًا وجعلني أتقن في لحظة تنويرية مميزة “فن الإنصات إلى الله”.

 

جلست أرتكن إلى الصمت المشبّع بالخواطر الهائمة هنا وهناك، أفتح لها المساحات بداخلي كما فعل الله مع قلبي.. علّقت بصري بشجرة ياسمين تتساقط منها زُهيرات بيضاء معطرة.

أنا والصمت وزهر الياسمين.

 

الاتساعات بداخلي تزداد ويقين يسكنها، أبصر حلولاً لمشكلات أرّقتني.. أستطيع ترتيب أفكار فوضوية لم أكن أدري بكيفية ترتيبها.. أختار التسامح حلاً بعد عند ألمّ بي.. أهدأ كثيرًا حتى مع العواصف الحياتية التي تطيح بكل ما كان مستقرًا بداخلي.. أجد الهدوء وأتمسك به كما يتمسك بي الله ولا يفلتني.

 

يبعث لي الله رسائله وأنصت للمرة الأولى.. أكف عن الحديث الذي يشوّش دومًا على مستقبلات السمع لديّ، أصمت ولكن تلك المرة غير مبتعدة عنه، بل مقتربة منه أكثر مما حلمت.

 

في تأملي وتدبري الصامت أيقنت أن الله يجاوب على أحاديثي.. يكلمني ويناجيني كما أناجيه.

يناجيني في الفكرة التي أصابت عقلي مع سقوط زهرة بيضاء أخرى.. يوضح لي إجابة تساؤل مع تألق نجمة صغيرة في السماء.. يرسل لي محبته مع فراشة بيضاء حفّت بأجنحتها واستكانت بجانب قدمي وأنا أفترش الرخام الأبيض أمام الكعبة المناقضة بياض الأرض بسواد كسوتها المتألق، أتأمل فراشتي وسكونها الآمن وأرى فيه ذات سكوني.. تشبهني كثيرًا في طيرانها المرتجف وذعرها من وسع العالم.. أتأملها مليًا فيخبرني الله أنه احتوى رجفتي وذعري وستنعم أجنحتي أنا الأخرى بالراحة بعد أن حفت بجانبه.. أبتسم ويزداد هدوئي وهدوئها.

 

نتقن جميعًا فن الحديث، نستطيع الحكي لساعات.. نتكلم وكأن الكلام سينتهي للأبد بعد أن نفرغ.. فنخشى أن نفرغ ونظل نتحدث بلا انقطاع حتى باتت مستقبلات الاستماع لدينا ضعيفة.. قد نستطيع أن نتقن فن الإصغاء أيضًا بالتأمل.. بأن نتأمل في أحاديثنا وأحاديث الآخرين، نتأمل أحاديث الله معنا ونكتشف رسائله لنا.

 

أتخيل جلسات دائرية تجتمع فيها أفواهًا قررت أن تصمت قليلاً وتسمع كثيرًا.. أتمنى لعام جديد أن نتقن معًا “فن الإنصات” لأنفسنا.. لبعضنا.. لله.

 

 

المقالة السابقةحلقات دعم للأرواح المُرهقة
المقالة القادمةمتى أصبح فقد الأصدقاء عاديًا وغير مُوجع؟!

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا