منذ سنوات عدة قرأت مقولة كتبها أحدهم على الجدار:
أنا اللهيب وأنا الهشيم اليابس وبعضي يأكل بعضي
ثم بخط أصغر نداء استغاثة من ثلاث كلمات “هل من منقذ؟!”. لم أكن أعرف وقتها من الكاتب، ولم يكن هناك إنترنت لأبحث عنها، وظللت يوميًا في الذهاب والعودة من المدرسة أشاهدها، وأشعر كأن كاتبها كتبها فقط ليصف ما يحدث داخلي. وبعد ذلك بسنوات قرأت جبران خليل جبران وعرفت أن الكلمات كانت له وأن مقتبسها فقط كتبها مع الاستغاثة. ولكني طوال هذه الفترة لم أتوقف يومًا عن الشعور أن هذه الكلمات كُتِبت خصوصًا في هذا المكان من أجلي، لأجد كلمات تعبر عما أشعر به، لم يكن في هذا الوقت مصطلحات مثل “اضطراب القلق” أو “قلق الانفصال” منتشرة أو يمكن قولها بسهولة أو التصريح بها. وهذا هو الأسوأ، أن تتآكل من الداخل، تشعر باشتعال أعصابك والكل لا يرى إلا البسمة البلهاء فوق شفتيك، فهذا لا يطاق.
قلق الانفصال وما يحدث ليلاً
كان هذا هو شعوري، طفلة صغيرة تعاني من قلق الانفصال بالإضافة لاضطراب القلق العام –كما عرفت بعد ذلك- ولكن كل ما يعرفه عنها الكبار أنها طفلة خوافة. الواقع أن أسرتي، وأمي تحديدًا، كانت الأكثر رفقًا بي وشعورًا بأنني كطفلة أعاني شيئًا ما، ولكنها في النهاية شخص واحد أمام الكون بأكمله، هكذا كنت أشعر دائمًا، أنني أحارب العالم.
لدي خوف دائم مرعب، ضربات قلبي تشتد، أشعر بحرارة جسدي ترتفع وجسدي ينتفض وروحي تسحب، تتدفق الدموع من عيني كأنها خراطيم مياه، ولكن دائمًا الرد أن هذا “دلع بنات”. تجيبهم أمي إنني لست طفلة “متدلعة”، بل أنا طفلة متفوقة مسؤولة ذات شخصية في هذه السن الصغيرة، وأن هناك خطبًا مرضيًا لديَّ في هذه النقطة تحديدًا، فيكون الرد، “هتطلعي سمعة على البنت إنها مجنونة!”، فتصمت وتزداد دقات قلبي.
عندما يأتي الليل يأتي الرعب
لسنوات عشت أنتظر الليل كمن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، عندما يأتي الليل سأنفصل عن أمي وأبي لأذهب وحدي، ووقتها ستحدث كل الأمور الشريرة. أنظر للسماء وأبتهل لله أن يتوقف اليوم ولا يأتي الليل، أو ينهار العالم ولا يأتي الليل، أن يصاب الجميع بالصمت أو النسيان فلا يتكلمون ليقولوا الكلمة السحرية “تصبحي على خير” ويتركونني وحيدة.
ولكن للأسف بعض الابتهالات غير قابلة للتحقق، ففي كل يوم بلا استثناء يأتي الليل، ويبدأ الرعب والخوف ونوبات قلق لا تنتهي، كأنها موجات تتلاطم، لتلطم قلبي فتتسارع دقاته. يبدأ البكاء الهستيري -يوميًا- بأنني أشعر بالخوف، لم أكن أعرف ما هو قلق الانفصال ولا أجيد صياغة ما أشعر به حقًا في البداية وفي هذه السن، فكل ما كنت أشعره هو الخوف. يسألونني هل تخافين من الظلام، فأنفي هذا، هل تخافين من الحرامي؟ من العو؟ من الموت؟ فيكون الرد: “على العكس يا ريت أموت وأرتاح”، فترتاع أمي من صغيرتها التي تتمنى الموت في السادسة من عمرها. ويكون السؤال الحائر: “أمال خايفة من إيه؟”، فتكون الإجابة “خايفة، خايفة من الخوف خايفة أبقى لوحدي، خايفة أسيبكم”.
تنتهي الجلسة اليومية باستسلام أبي أنه لن يتركني أبكي وحيدة للصباح، وأنه يمكنني أن أبقى معهما. واستسلام أمي بأن طموحي ليس فقط أن أنام معهما، بل أن أظل في أحضانها أشعر بملمسها وأنها هنا. واستسلامي أنني سأظل أستيقظ كل ساعة لأنظر لأنفاس أمي وأبي وأتأكد أنهما لم يفارقا الحياة، لأحظى كالعادة بنوم قلق دائم.
حتى الجيران كانوا طرفًا في حياتي فكرهتهم جميعًا
هناك أيام كان أبي يقرر أن يكون أكثر حزمًا، فالفتاة التي تكبر يومًا بعد يوم يجب أن تنفصل، وهكذا يقرر أنه من اليوم ستنفصلين في الليل. كان الخبر ينزل على رأسي كأنه مطرقة، الموجودات أمامي تسود، الحياة تتوقف، ضربات قلبي تزداد وأبدأ في الشعور برغبة عميقة في قذف كل ما في معدتي خارجها.
كنت أتساءل لماذا يهاب الناس الموت، بالتأكيد لن يكون شعوره أسوأ من هذا. تطوف في رأسي كل أفكار وطرق الموت التي يمكنني أن أمارسها، وأفكر في كل الأمور الجيدة التي يمكن أن ينقذني بها الله، كأن تضربني سيارة وأنا أسير، أو يكتشفوا أنني مريضة بمرض عضال، أو أن أصاب بالشلل أو العمى أو أسقط من الشرفة، بالتأكيد يمكن أن يصيبني أي من هذه المِنح، فيقرر والدي أنه يمكنني أن أبيت معهما اليوم، ولكن هذا لا يحدث للأسف مهما تمنيت.
يكون هذا النهار مقدمة من الترقب المنتظر مع الكثير المحايلة، الوعود بأنه يمكنني أن أفعل أي شيء، سأكون مطيعة، سأحصل على الدرجات النهائية، سأتنازل عن مصروفي، لا أريد كتبًا جديدة أو حلوى، سأرتب غرفتي، سأكون مثالاً لكل شيء جيد في كل شيء كل شيء فقط دعوني أكون عبئًا ومخطئة في هذه الجزئية فقط ولا تتركوني وحيدة. فتكون الإجابة أننا لا نحتاج كل هذا، فقط نريدك أن تكوني طبيعية مثل باقي الأطفال.
جلسات مطولة جديدة من الحوار عن أن هذا لمصلحتي، ولا يمكن أن أظل هكذا. عن إغراءات كثيرة، عن تجميل غرفتي، عن المحفزات التي يمكنني الحصول عليها، ثم مع رفضي كل شيء يصدر الحكم النهائي بأن هذا ما سيحدث مهما فعلتِ، اذهبي إلى غرفتك، يكون الليل قد حل، وخرجت المخاوف لتنهشني.
بكاء، بكاء، بكاء حتى يستمع له الجيران الذين يحاولون دائمًا في الصباح أن يتساءلوا عما يحدث، فتكون الإجابة الدائمة التي تقتلني “أصلها بتخاف تنام لوحدها”. أشعر معها أن الآخرين ينظرون لي بدونية، وأنه تم وصمي بأنني فتاة مدللة أو رعديدة، أن شخصيتي كفتاة قوية في كل شيء آخر تنهار عندما يبدأ الحديث عن مأساتي الليلية، خصوصًا عندما يبدأ حديث النصح، فيشارك الجميع في نصحي بأن أكون فتاة مطيعة وأن الأمر بسيط.
وكلما كبرت تدخل أطراف جدد في الأمر، تُحكى لهم الحكاية بشكوى أو درءًا لتهمة أنني فتاة مُعنَّفة تبكي طوال الليل، فأزداد كرهًا لكل شخص قرر أن يعطيني عريضة نصائح طويلة، عن أنني كبرت، وأن هذا لا يليق، وأنني أفسد حياة أبي وأمي، ثم نصيحة لأبي وأمي أن يكونا أكثر حزمًا، وهو الأمر الذي لم يفعلاه مطلقًا. ظللت لسنوات أردد أسماء كل من حرَّض والدي عليَّ كأعداء دائمين لي أكرههم، والقائمة تطول، كلما تدخل أحدهم ليكيل لي الاتهامات أقاطعه وأضمه لقائمتي.
ظلت والدتي تلح على أخذي للطبيب النفسي، والجميع يقفون في وجهها بأن هذه سمعة سيئة لا يجب أن توصم بها ابنتها. الواقع أنني لم أكن طفلة مُعنَّفة قط، لم أضرب قط، ظل أبي كل ليلة يأخذني بالتهديد البسيط -الذي لا ينفذه أبدًا- مرة، والوعيد مرات، ثم يستسلم لأنه لا يمكنه تركي في نوبة القلق المريعة هذه، فيقرر أنه اليوم فقط ومن غد تذهبين إلى غرفتك، فأشعر أن حكم البراءة قد صدر لي لمدة 24 عامًا. يجلس بالساعات ليناقشني بأن هذا لا يلائم شخصيتي، لا يمكن للفتاة القوية ذات الشخصية المتفوقة صباحًا أن تتحول هكذا مساءً، فيقتنع عقلي ولكن قلبي يرفض الانفصال، ليؤكد هذا الرفض عندما تغرب الشمس ويبدأ البكاء.
إن كانت المشكلة في الليل فلنلغيه
تفاقم الأمر عندما بدأت في مغادرة مرحلة الطفولة، فالعيش بشخصيتين منفصلتين تمامًا بين النهار والليل أمر مرهق، وإحساس الذنب القاتل الذي أصبح يلازمني أشد قتلاً، فللأسف بدأت أدرك أنني أفسد حياة والدَي حقًا، ويزداد خجلي من أن يذكر أمام أي شخص. أتذلل لوالدَي ألا يذكراه لأحد، فلم أعد الطفلة التي يمكنها تحمل اللوم والتدخل في حياتها بهذا الشكل.
خطر ببالي إن كانت المشكلة في الليل فلأبقى متيقظة طوال الليل، يمكنني القراءة أو المذاكرة ثم الذهاب للمدرسة والعودة للنوم. حاولت هذا ولكني اكتشفت أن المشكلة لم تكن في الليل وحده، المشكلة أنني أنفصل عنهما، لا أستطيع أن أرقبهما يتحركان، يتنفسان، كل هذا ممكن ونحن معًا نهارًا ولكن في الليل لا يمكن لذلك أن يحدث.
ورغم ذلك اكتشفت أن تيقظي ليلاً يمكن أن يقلل من هلعي قليلاً فأنا متيقظة أرقب، أنتظر صوت كحة من والدي، تقلب من والدتي ليطمئن قلبي الذي لا يحصل على الطمأنينة أبدًا، طفولة كاملة عشتها سعيدة مدللة نهارًا غير مطمئنة على الإطلاق ليلاً.
أخيرًا الطب النفسي يتدخل
سنوات طوال بين الكر والفر، وأنا أكبر والقلق يكبر، يتحول لوساوس أشد في مطالبة أمي بقول الأدعية التي تحفظها بشكل هيستري، يتشكل قلق الانفصال في عدم رغبتي بالسفر أو مع المدرسة لأي مكان يبعدني، في غلق النوافذ، وتخبئة السكاكين ليلاً، كل شيء أصبح يدخل في دائرة القلق، ومع كل تسريب لشخص غريب أنني ما زلت كما كنت، تزداد كراهيتي لحياة أعيش بها دائمًا موصومة في نظر الآخرين، أنني رعديدة، جبانة، شخصيتي الأخرى غير حقيقة، فبالتأكيد لا يمكن لهذه الشابة الجبانة أن تكون متفوقة أو ناجحة. هكذا يردد الآخرون وهم يعنفونني بديلاً عن والدَي، وهكذا بدأت التفكير ومحاولة التنفيذ للخلاص من حياتي ذاتها.
هنا كان الفيصل لوالدي، أن عار الطبيب النفسي سرًا أرحم كثيرًا من عار فتاة منتحرة، لن يصدق أحد أنها ماتت خوفًا من النوم ليلاً وحدها. عندما ذهبت للطبيب وبدأ التشخيص يتضح، وبدأ رعبي يتخذ أسماء علمية واضحة، “اضطراب القلق” الذي بدأ من الطفولة المبكرة، اضطراب قلق الانفصال تحديدًا، والذي كبر ليشمل اضطراب قلق عام ووسواس قهري. اضطراب بسيط ربما كان يمكن لطبيب أن يعالجه منذ البداية، إلا أنه توغل ليصبح غولاً سيطر على حياتي بأكملها لسنوات، أعيش بها منفصمة بين شخصية النهار والليل. قد أفاد الطبيب ولكنه لم يستطع أن ينهي اضطراب القلق كليًا، وكأن روحي قد تم وسمها للأبد.
كيف أواجه القلق الآن
كبرت وتحولت للطرف الذي يُنتظر منه أن يقدم الأمان لا أن يأخذه، وقد فعلت، ولكنني لم أتوقف يومًا عن القلق، يقل أحيانًا، ويزداد حينًا، لكنه هناك. كبرت وتوالت عليَّ اضطرابات القلق، بالإضافة إلى بعض الأصدقاء الجدد اللذين يأتون حينًا ويرحلون مثل PTSD كرب ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب الحاد، ولكن الجميع يأتي ويرحل ويبقى اضطراب القلق صاحب دار لا يغادر.
كبرت وتعلمت أنني لن أخجل من كوني مريضة، وأحتاج لدعم نفسي، وأنني لن أترك ذاتي لأعاني، فقط كي لا أوصم بأنني “مجنونة”. كبرت وتعلمت أن أتعايش كثيرًا مع قلقي القديم، بل أن أصاحب خوفي وأحب الليل، ولكني لم أنم به مطلقًا، منذ ملكت أمر ذاتي وأنا لا أنام ليلاً، ربما قد أصبحت عادة أو هي بقايا خوف قديم، ولكن الليل صديقي في الاستيقاظ لا النوم.
كبرت وأصررت أنه لو رزقني الله بأطفال، سأعيد تجربة أسرتي في كل شيء في تربيتي، والتي أفتخر بها في نواحِ عدة أخرى كثيرة للغاية، إلا في أن أخجل من أن أعرض طفلي للطب النفسي مهما صغر، ومهما رأيت المشكلة لا تستحق، أو أن من حولي يرونها سُبة.
اقرأ أيضًا: اضطراب القلق عند الأطفال: 8 طرق تساعد طفلك على تجاوزه