هل طالعت يومًا وأنت تتصفح الإنترنت صور تلك الحملة الإعلامية الأجنبية عن أثر العنف المعنوي، حيث تتحول الكلمات السيئة إلى كدمات على وجوه متلقيها؟ هل تخيلت لوهلة أن ثمة ندبات لا يصلح معها تدخل تجميلي، لأنها تُشوِه الروح لا الجسد؟ هل انتبهت مسبقًا إلى أن العنف لا يأتي دومًا في صورته الشهيرة كالضرب والصياح. وإنما قد يأتي في هيئة أفكار سلبية عن نفسك يغرسها آخر في ذهنك دون تعدٍ جسدي؟ هكذا هو العنف النفسي في العلاقات العاطفية.
يأتيك من شريك غير أمين، فيتركك غير آمن. عنف نفسي لا توجه فيه السياط إلى جسدك وإنما إلى روحك مباشرة. علاقة لا تحصل فيها على شعور الحب خالصًا، وإنما ممزوج بشعورك بأنك غير كاف. غير مستحِق للحب. غير جدير بالمحبة إلا بالشروط التي يضعها شريكك. أفكار مغلوطة عن نفسك يمررها الآخر إلى عقلك تدريجيًا. كلقاح مسموم يسري في الدم رويدًا رويدًا إلى أن يتملك الجسم فيهزمه. هل تصورت قسوة أن يدس السم في جسدك أقرب المقربين.. أو مَن يُفترض به أن يكون كذلك؟
أمثلة على العنف النفسي
بنظرة متفحصة لكثير من العلاقات حولي، عايشت نماذج تحولت من أوج الوهج والانطلاق والذراعات المفتوحة لاستقبال حب الحياة، إلى وجوه شاحبة منطفئة لم تعرف السعادة إلى روحها سبيلاً. والذراعات المفتوحة للحياة باتت بالكاد قادرة على تطويق صاحبها، ليربت على نفسه لمواساتها بعد خذلان الشريك. ومن النماذج المحيطة يمكن رصد خمسة أشكال شائعة للعنف النفسي في العلافات العاطفية:
1. التقليل من مظهر الشريك
يقول الكاتب الأردني المُلقّب بــ ديك الجن:
الحب ينهي كل أسئلة الإنسان تجاه نفسه: القلق بشأن المظهر، انعدام الثقة بالنفس، النظرة الدونية للذات، العلاقة المرتبكة مع الجسد. كل حفر الروح المؤلمة هذه يردمها الحب كأن لم تكن. لذا حينما تعبث بقلب إنسان كل الحفر القديمة في نفسه تعود مضخمة وبزخم أكبر.
من صور العنف النفسي في العلاقات العاطفية أن يشكل الشريك تهديدًا للآخر بسبب مظهره. وأن يُشعره على الدوام بأنه غير راضٍ عن هيئته أو وزنه. ولا يُقصد بذلك أن لفت انتباه الشريك لأمر ما متعلق بمظهره غير مقبول، لكن يشترط أن يتم ذلك دون إهانة أو تجريح، وبدافع الرغبة في التطوير من مظهر الشريك، لا النيل من ثقته في نفسه. أما تعمد الانتقاص من هيئة الشريك بالشكل الذي يصوره كإنسان دميم، وتدفعه للشك في استحقاقه للحب، فهي بلا شك من صور العنف المعنوي. ويفترض بالشريك أن يكون الداعم الأول لتقبل الذات، والمعين الأكبر في رسم صورة إيجابية عن النفس. أما تصدير صورة سلبية عن مظهر الآخر فتخلق إنسانًا لا يشعر بالأمان في حضرة شريكه.
2. الغضب على توافه الأمور والمعاقبة بالخصام
الشريك السوي لا يعاقِب بالغياب أو بمنع التواصل في حالة الخلاف، وإن تطلب الأمر هدنة لتهدئة الأوضاع المتأزمة، فإنه يخبر شريكه بوضوح بحاجته للابتعاد لتقييم الأمور
ربما اشتهر جيل آبائنا بنصيحة كلاسيكية في العلاقات مكونة من خمس كلمات فحسب، لكن بها من الحكمة ما يتجاوز كلماتها البسيطة: “متناموش زعلانين من بعض”. من المؤكد أن لا علاقة بلا خلافات، لكن يبقى المهم كيفية إدارة الطرفين للخلاف. إلا إن الثورة والغضب على أي شىء مهما بدا تافهًا يُعدان من صور الابتزاز العاطفي والعنف النفسي. خصوصًا إذا اقترنت ثورة الغضب تلك بمعاقبة الشريك بمنع التواصل معه لأيام عديدة، ليرضخ بالعدول عن تصرفه الذي تسبب في نشوب الخلاف.
الشريك السوي لا يعاقِب بالغياب أو بمنع التواصل في حالة الخلاف، وإن تطلب الأمر هدنة لتهدئة الأوضاع المتأزمة، فإنه يخبر شريكه بوضوح بحاجته للابتعاد لتقييم الأمور، أو على أقصى تقدير فإنه إن ابتعد قليلاً لم يتعذَّر على شريكه الوصول إليه. فهو حاضر دائمًا حتى وإن اختلف شكل حضوره. لكنه قطعًا ليس الشريك الذي يختفي لأيام تاركًا نصفه الآخر لبشاعة الاحتمالات.
3. كثرة النقد وإلقاء اللوم على الآخر
يشمل العنف النفسي أن يتخذ الشريك من شريكه “شماعة” يُحمِّل عليها الأخطاء كافة. فإن جانبك الصواب في أمر ما لا يكون نصيبك المواساة والدعم لتفادي تكرار الخطأ مرة أخرى، وإنما ستوجه إليك سهام التأنيب والاتهام بعدم القدرة على التصرف بشكل سليم. بما قد يجعلك لا ترغب في اقتراف الأخطاء لا لتجنبها في حد ذاتها، وإنما لتجنب ثورة الشريك. والأسوأ أن تصدق مع الوقت ما يغرسه فيك شريكك من أفكار مغلوطة. فتهتز ثقتك بشأن قدرتك على التصرف في المواقف المختلفة.
وقطعًا فإن الشريك كثير اللوم والانتقاد يكون عادةً من ذلك النوع الذي لا يعترف بأخطائه، لأنه يرى أنه يفعل كل ما هو صواب، وأن شريكه وحده المخطئ على الدوام.
4. مقارنة الشريك بآخرين
يقال: “نصف الثقة بالنفس عدم المقارنة مع الآخرين”.
ما بالك بشأن ثقتك بنفسك حينما يقارنك شريكك بآخرين؟ ففي المظهر هناك آخرون يشير إليهم لتحاول أن تبدو مثلهم. وفي التصرف ثمة آخرون أيضًا يوجه لهم أنظارك لتتعلم منهم. فما الرسالة التي تصلك عن نفسك إذًا سوى أنك غير كافٍ بالنسبة لشريكك؟
5. التقليل من نجاحات الآخر
من الطبيعي أن يشكل أي ثنائي فريقًا واحدًا. فنجاح أي منهما لا يعود على شخصه فحسب. وإنما ينعكس على طرفي العلاقة معًا، فيفرح الشريك بما يحرزه الآخر بنجاحات عملية وتزيده شعورًا بالفخر. لكن الأمر ليس كذلك في العلاقات غير الآمنة، إذ تمثل نجاحات أحد الطرفين تهديدًا للطرف الآخر، الذي لا يشعر بالأمان، إلا بالشعور الكاذب بأنه الطرف الأهم. وبالتالي فلا سبيل لتحقيق هذه الأهمية إلا من خلال سد الطريق على شريكه لإعاقته عن تحقيق أهدافه. أما إذا كان نصيبه شريكًا لا يستسلم بسهولة، فحيلته هنا تكون بالتقليل مما يحرزه شريكه من تقدم، والانتقاص من جدوى ما يفعله.
كيف نكسر سلسلة العنف العاطفي؟
العلاقات العاطفية يفترض أن تكون واحة آمان يستريح فيها الفرد من اللهاث في حياة قاسية. إلا أن ممارسة العنف النفسي مع الشريك بإذلاله وقهره والتقليل منه، حولت الواحة الآمنة لصحراء يُلهب قيظها القلوب.
التشخيص أول مراحل العلاج
وحتى لا تصبح علاقتك حلقة جديدة تضاف لسلسلة العنف العاطفي، من المهم أن تكوني قادرة أولاً على تصنيف تصرفات شريكك بوعي، فالتشخيص أول مراحل العلاج. وهناك فارق بين تصرف عارض يصدر من الآخر دون قصد، وتصرف عمدي متكرر. وفارق بين شريك يقبل النقاش ويحترم رفضك لأسلوب ما، وآخر لا يفرق معه التقليل من احترامك.
رفض الأذى
عليك أيضًا التعبير بوضوح عن رفضك لأسلوب الشريك إذا كان يؤذيك نفسيًا، للفت انتباهه لما يزعجك. أما إذا كان الإيذاء الواقع على نفسيتك لا ينتهي، ولا يستجيب شريكك لرفضك أسلوبه، وكنت طرفًا في علاقة لم تتعقد معطياتها بما يجعل الخسائر غير فادحة، فعليك باتباع مقولة ” الألم إشارة للتوقف”.