هل تعرفتِ من قبل عزيزي القارئ على تأثير الكتمان في القلب لأشهر طويلة؟ توفى أبي منذ ثمانية أشهر، هل يمكنني أن أخبركم أنني حتى وقت قريب لم أبكِ عليه كما ينبغي؟
لم أرثِه بالشكل الذي يسمح لروحي بأن تهدأ ولحزني أن يخرج من صدري وروحي ليقل تدريجيًا كما يُقال؟
أبتسم وأمارس حياتي كاملة، وأعمل وأعتني بطفلتي وبيتي، يصل الأمر بي للذهاب لمواساة الآخرين أو مشاركتهم فرحتهم، لا أعرف تحديدًا من أين واتتني هذه الصلابة الظاهرية
ولكنني اخترت بكامل إرادتي أن أكتم الوجع دون أن أعبر عنه، وكأنني أضع لاصقة على جرح ما زال ملوثًا من الداخل، فأصابتي كل أضرار الكتمان على النفس.
ما هو الكتمان في القلب
كنت أتساءل.. لماذا أشعر بثقل قلبي يزيد يومًا بعد الآخر؟ لماذا يملأ روحي الشحوب حينما يمرّ أمامي موقف كان به أبي حاضرًا يومًا ما؟ لا أستسيغ كلمة “كان” ولم أعرف الحديث عنه بصيغة الغائب قط، كل من حولي يندهش من تصرفاتي وردة فعلي ولا يتحدثون، لأنهم لا يعلمون شيئًا مما بروحي..لا يعلمون ما هو الكتمان في القلب وكيف يثقل أرواحنا ويصيبها بالعطب.
تتشارك أختايَ أدعية الأموات كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي ولا أستطيع فعل هذه الخطوة أبدًا، إنكار داخلي وهروب من التعبير عن الوجع أو حتى الاقتراب منه.
أنجبنا أبي ثلاث فتيات، أنا الصغري، أكثرهن تحكمًا في إظهار مشاعري وأقلهن في قضاء الوقت مع أبي، بحكم عمله خارج البلاد، كان يخبرني أن الحياة لا تنتظر الوقت المناسب لتنفيذ الأحلام، وكان يطير وراء أحلامه في بقاع الأرض. أظنني ورثت منه هذا الأمر.
عندما اشتد به المرض فجأة كانت وصيته ألا نحزن أو نضعف في عزائه، أن نقف شديدات كما عهدنا، كان يفتخر بإنجاب الإناث، ويخبرني شخصيًا أنني عوَّضته عن إنجاب الذكور لأنني ب 100 راجل، حمَّلني دون أن يعلم أكبر وصية في حياتي.. ألا أحزن، أو على الأقل ألا أعبر عن حزني علنًا.
تعرفي على: ما هي أضرار الحزن وتأثيره؟ تأثير الحزن على القلب والجسم
أضرار الكتمان على النفس
ظللت هكذا شهرًا بعد الآخر دون أن أعلم أنني أغمس نفسي في أضرار الكتمان على النفس، زاد الأمر صعوبة كوني أصبحت أمًا، يجب أن أتماسك من أجل طفلتي، كلما كنت على وشك الانهيار وإخراج كل بكاء مكتوم داخلي، وكل وجع اشتد بي ولم أستطع التعبير عنه كما ينبغي وقت العزاء، وجدت البكاء قد هرب والحزن قد صار كتلة كبيرة تجثم على روحي وقلبي ولا أستطع زحزحتها ولو قليلاً.. وكأن كل وجع الكتمان في القلب قد تجمد داخلي للأبد عقابًا على عدم البوح به في وقته.
تعرفي على: ما تحتاجين لمعرفته عن كرب ما بعد الصدمة، الأعراض والعلاج
تأثير الكتمان على الجسم
كان الجميع يخبرني بأن عليّ أن “أجمد” وأشدّ من أزري. أكل الكتمان في القلب من روحي يوميًا ما أكل، أصبتي اضرار الكتمان على النفس بنوبات اكتئاب غير مفهومة لمن حولي، أنُهك قلبي تمامًا، وحولني لقطعة جماد لكل من يراني، أتحاشى الحديث عن حزني أو لمسه وأكتفي بالدعاء لله فقط، لأنني يجب أن أجمد.
كتمان الحزن في القلب يجعلك تمارس حياتك كاملة وأنت تحمل فوق أكتافك أطنانًا من الثقل وتربط في قلبك قطعة حجر لا تُمكِّنك من الاستمتاع المشروع بالحياة، تأثير الكتمان على الجسم يحولك لآلة تتحرك بلا روح ولا هدف.
هناك دموع لم تُذرَف وصراخ لم يخرج للعن، وحزن مطبق لم يجد له منفذَا من روحك.. بالتأكيد سيتسرب كل ذلك لبقية جسدك بالتدريج، فيلازمك الإرهاق والخمول والهروب والرغبة في الوحدة دائمًا، وعدم تحمل أي شخص أو أي شيء.. في الحقيقة لن يعود هناك شيء ليسعدك.
كيف أتخلص من الكتمان
كان لا بد لهذه الحالة أن تنتهي.. كان لابد لأضرار الكتمان على النفس أن تُحسم، وأن يخرج الكتمان في القلب لمثواه الأخير هو الأخر.
- كان ضروريًا أن أضع شريطة بيضاء على وجعي، وأن أنظف ما تلوث منه، وأن أخرج الحزن الآن وليس غدًا، وأن أعرف أن ممارسة فعل الحياة ليس أمرًا مشينًا ينقص من حزن وجلالة الموت شيئًا، كان عليّ أن أعترف بمشاعر الفقد وآلفها وأتعايش معها بسلام بدلاً من إنكارها.. الحزن يوهن القلب لا محالة.
- كتبت حزني أمامي حروفًا على الورق، ضغطت على الجرح بقوة حتى يُخرِج كل ما به من حزن كاملاً، وبكيت كما لم أبكِ من قبل، حصلت على حقي في التعبير عنه كما أريد دون خوف أو تردد، كان الوجع قد فاق قدرتي على الاحتمال، كان وما زال الله هو سندي في هذه الفترة، وكان وجعي يتسرب خارجي مع كل مرّة أبكي وأدعو الله براحة القلب والصبر.
- تخلصت من حالة النكران وصرت أخف، حتى في الإحساس بالحزن، ربما تأخرت في البوح، ربما كان وقع الحزن الآن أكبر وأثقل، ولكنني أخيرًا تحررت من الكتمان، وهذا يكفيني.
نصيحتي الأخيرة لكِ “متجمديش”، لا تتركي أضرار الكتمان على النفس تتمكن منك، سيترك الحزن ندبة في القلب لا مفر، سيزيدها الكتمان في القلب سوءًا مع كل لفتة وكلمة وذكرى وأنتِ بمفردك، وسيجعلها حقنا في البوح والتعبير عن الحزن في حينه أقل وجعًا مع مرور الوقت.. أرجوكِ عبري عن حزنك الآن وبقوة، لا عليكِ أن “تجمدي” أو تُجمِّدي حزنك داخلك أبدًا.