بقلم: هديل عبد السلام
طيلة العام كنتُ أتساءل: ما الذي يُميّز الثلاثين عن كل ما سبقها؟!
القاعدة الثابتة التي تعلّمتها طوال العام، هو أننا نعرفُ أننا نكبُر حين نجدُ أنفسنا نتعلّم كل يوم كيفية الاحتضان، وأنه لا يكفي أبدًا أن نحتضنَ أفراحنا لكثرة حُبّنا لها واحتفائنا بها، نكبُر حقًّا حين نتعلّم كيف نحتضنُ أوجاعنا وفشلنا وسقطاتنا، حين نعرفُ كيف نحتضن أنفسنا بقوّةٍ وَنَحْنُ في قاع الوحل، وعُمقِ الْحُزْن، وفِي أقصى درجات الحيرةِ والضياع.
اليوم أكملت عاميَ الثلاثين
منذُ أعوامٍ وكل من يراني يقيّمُ عمري الظاهريّ بأقل بكثيرٍ من الحقيقة، لسببٍ ما، أنا لم أكبُر منذ العشرين، توقّفت ملامحُ وجهي هناك، رافضةً الاعترافَ بالزّمن، مرّت الخامسة والعشرون مرور الكرام من فوق ملامحي، ومرّت بعدها سنوات خمس أخريات. لا زال وجهي يصوّرني للناس كفتاةٍ عشرينية طائشة، حتى النظارة الطبية التي عُدتُ لارتدائها لم تشفع لي ولَم تزدني وقارًا وعمرًا.
في آخر شهرين قبل أن أخطو الثلاثين، أخطأ في تقييم عمري سبعة أشخاص على الأقل، عامل المقهى الذي اعتقد أنني لم أُكمِل الثامنة عشر، وسيدة المطار الخمسينية التي ظَنّت أني طالبة ثانوية، وسائقون متفاوتون في العمر، كلهم ظنّ أنني طالبة جامعية على الأكثر.
كنت أتردّدُ في إعلان عمري الحقيقي كفتاةٍ تَبْلُغ ٢٩ عامًا، ذلك لم يجعلني أُنقِصُ من عمري مثلاً، ولكنه لسببٍ ما كان يجعلني أُصحّح لهم نظرتهم وأستبق الأمور بقولي “أنا عندي تلاتين سنة”، كرقمٍ صادمٍ لهم.. ولي أيضًا.
اقرأ أيضًا: اعترافات خفيفة تليق بعامي الثلاثين
اليوم أكملت الثلاثين حقًّا
لم أُنكِر خوفي المستمر من التقدّم في السن، ليست التجاعيد أو الشعرات البيض هي ما يخيفني، لأنني كما قلت، توقّفتُ في هذا الملعب عند العشرين عامًا
لكن الخوف الحقيقي يكمُن في أنني كل عامٍ أشعُر وكأنني خاليةُ الوفاض، لم أبلُغ ربع ما ظننت أنني يمكن أن أبلغه على عتبة الثلاثين، المُضحك في الأمر أن ذلك الذي أريدُ بلوغه يتغيّرُ ربما كل عام.
لكن المهم أنني أشعُر أني دائمًا أصِلُ إلى عتبة العام الجديد وقد تركتُ حقيبة إنجازاتي في مكانٍ ما، ولَم أعد أعرف طريقها.
لم يَعُد الأمرُ استباقًا للأحداث، صرتُ الآن فتاةً، أو لنقُل سيدةً ثلاثينية بحَق، كان هاجسي الأكبر طوال السنة هو ألا أَجِد ما أوثّقه عن هذا العام، وألا أنجح في إيجاد حقيبتي المفقودة دائمًا
لكنّي اليوم وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو الثلاثينيات، أقول إنّ الحياة ذاتها إنجازٌ من نوعٍ ما، ربّما آن الأوانُ أن أوقِن أن كل اختيارٍ صحيح اخترتهُ هذا العام هو إنجاز، وَكُل اختيارٍ خاطئ وقعت فيه هو درسٌ يقودُ إلى إنجازٍ في يومٍ آخر.
اقرئي أيضًا: عيد ميلادي 25: العمر مجرد رقم والنضج اختيارك
اليوم أُكمِلُ عامي الثلاثين
وقد عرفتُ أنّ كل انكسارات قلبي كانَ لها هدفٌ ما ونتيجةً هامة، القلبُ لا يعرفُ الانكسار إلا إذا كانَ قد عرف وذاقَ الحُب، تُعرَفُ الأشياءُ بأضدادها، لذا علينا أن نُحِب، ونحب بقوّة.
عرفتُ ذلك في أعوامي العشرينية الأولى. ولكن في عامي الأخيرِ هذا، تعلّمتُ أنهُ رغم لزوم الحُب، فإنّ الحب كشعورٍ وحده لا يكفي، لا يكفي أبدًا، الحُبّ فعلٌ أو أفعال
لذا فإنّ علينا أن نُلزِم أفعالنا بهذا الحُب، أن نعفو متى استطعنا، أن نهتم ونستمع ونحنو في كُل وقت، أن نضع الحُب كمكوّن أساسي في كُل تصرّفاتنا تجاه أحبّتنا، حتى في الخلافات، وأن نذكّرهم به ونذكّرُ أنفسنا أيضًا كلما نسينا.
عرفتُ أيضًا أن العلاقات أهم المهم، ليس فقط العلاقات العاطفية، بل الصداقات أيضًا، قبل بداية عامي الثلاثين، اضطررتُ ربما للمرة الثالثة، للانتقال بحياتي من مُحيطٍ إلى محيط، تاركةً ورائي ذكرياتٍ وعلاقاتٍ بُنيَت بكثيرٍ من الحب وكثير من الطاقة. كل علاقةٍ يمكن تشبيهها بالصندوق، كل طرفٍ يضعُ في الصندوق شيئًا، حُبًّا، اهتمامًا، رحمة وهدية، كلاهما يمكنه أن يفتح الصندوق في أي وقتٍ للاستزادة منه، فتجدُ ونسًا حين تكون وحيدًا، وتجدُ أمانًا حين تكون خائفًا وتجد هديةً حين يأتي عيدُك، إن استمررت في العطاء فقط دون أخذ، فستشعر بأنّك مُستغَل وستزهد في العلاقة، وإن أخذت فقط دون عطاء سيزهدُ فيكَ الطرف الآخر.
هذه الصناديق الخفيّة في كل علاقاتنا هي أهم ما نملك، وحدها تستمرُّ بعد ابتعادِ المسافات. تحملها فوق ظهرك في كل رحلاتك، كلّما زادت مكوّناتها خفّ وزنها وسهُل حملها، الصناديقُ الفارغة هي الأثقل على الإطلاق، لذا تجدُ نفسك تتركُها لتوفّر مكانًا لتلك الممتلئة عطاءً وتراحمًا ومحبة.
لن يُحبّكَ كل الناس، هذه حقيقةٌ مؤكدة، مهما حاولتَ أن تكونَ شخصًا لطيفًا محبوبًا، لذا لا تبذل مجهودًا كبيرًا في محاولة إثبات عكس ذلك، تعلّمتُ أن أُقيِّم علاقاتي جيدًا، فالمحبّةُ الغامرة التي تأتيني من شريك حياتي وأصدقائي المقرّبين، لا يمكن مقارنتها بعلاقاتٍ أخرى أقلُّ أهميةً وحبًا.
اقرأ أيضًا: في عيد ميلادي الثلاثين ماذا تعلمت في تلك الرحلة! محاولات في مواجهة الثلاثين
اليوم أُكمِل عامي الثلاثين..
وقد عرفتُ أخيرًا أنني لستُ محوَر الكون، لي مداري الخاص الذي أدورُ فيه ويتقاطع مع مداراتٍ أخرى، لكن لا أحد منّا يدورُ حول الآخر، والكون لا يدور حول أحد، من الصعب جدًا أن نخرُج من مجالنا ومدارنا الخاص لنرى الكون من زاويةٍ أخرى، لنرى الأحداث الأكبر منا والأكبر من مشكلاتنا الصغيرة واهتماماتنا البسيطة، وأحلامنا الصغرى، وأن نشعُر بحقّ أننا في النهاية مدارات صغيرة جدًا وسط كونٍ واسع كبير. وأن علينا أن نلقي نظرةً على الكون الواسع كلّما انتابنا القلق وسيطرت علينا مخاوفنا.
لكن مع صِغَر حجم تفاصيلنا فإنها في النهاية تشكّلنا وتشكّلُ عالمنا الصغير، لذا فقد أدركتُ أن اللحظات الهادئة التي يتقاطع فيها مداري مع مدارات من أُحِب أهم عندي من كُل الصّخب، التمشية مع زوجي في شوارع لا نعرفها، محادثاتنا الصغيرة، تلك اللحظات التي تنتزعنا من الصّخب هي الأهم على الإطلاق.
تعلّمتُ أنّ العلم وحده لا يكفي، المتعلّمُ غير الواعي هو جاهلٌ بامتياز، أنّ عدو الإنسان الأكبر هو قلة الوعي وليس الجهل. لذا فإنّ نشر الوعي على نفس درجة أهمية تعليم الحروف الأبجدية.
في الأشهر الأخيرة، تعرّفتُ على “جروب” صغير على الفيسبوك، أنشأته العزيزة “مريم” لدعم الأمهات الجديدات، وتوعيتهن بأهمية العودة إلى الطرق الطبيعية في الولادة والرعاية والرضاعة
“مريم” تبذلُ جهدًا كبيرًا في مواجهة قلة الوعي، معظم الأمهات متعلّمات، لكنّ وعيهن بالصحيح من الأمور هو ما يستحقُّ المحاولة والتغيير. “مريم” تنشرُ وعيًا أكثر مما تنشُر علمًا، لأنّ الوعي أهم وأجود.
اليوم أُكمِلُ عامي الثلاثين..
وقد تعلّمتُ أنّ هناك فرقًا شاسعًا بين الألم والمعاناة، الألمُ يصقلُ الروح ويعلّمها ويجعلنا نُدرِكُ أن هناكَ شيئًا ما ليس في مكانه، ويجب تعديله للعودة إلى الراحة
أما المعاناة فهي استمرارٌ للألم بعد معرفة السبب، دون محاولةٍ للتغيير. المعاناةُ على عكس الألم، تصيبُ النفوس بالعطب.
تعلّمتُ أننا أحيانًا يجب أن نصبر وننتظر، وأنهُ لا داعي لاستعجال الأمور فقط لأننا نرى غيرنا يهرعُ إليها، أحيانًا علينا أن نستمتع برحلتنا الخاصة على طريقتنا الخاصة.
أدركتُ أن الصراحة واجبة والصدق أولى دائمًا، مهما كانت مشاعري تبدو لي سخيفة أو تافهة، يَجِبُ أن أصدّقها وأصدقُ التعبير عنها بصراحة، دُونَ أن تجرحَ أحدًا. تلكَ هي المعادلة الصعبة.
اليوم أُكمِل عامي الثلاثين..
وقد أدركتُ أنّ أكثر ما يُعيبني ويقتلني أحيانًا هو الشك الدائم، أرى الناس يُعجَبونَ بما أكتُب وبما أرسم وبما أطهو، وبما تصنعُ يداي من الفنون
لكنّي لا أتوقّفُ عن الشَّك في آرائهم والشك في قدراتي، ما يمنعني مِن تحقيق ما أريد وملء حقيبتي هو شكّي الدائم في يدَي ورأسي، ما يمنعني من الأمل ومن الحلم ومن السعادة أحيانًا هو وحش الشّك الدائم.
اليوم أُكمِلُ عامي الثلاثين..
هذه المرة، معي حقيبتي، حتى وإن كانت لم تمتلئ كما يجب أو كما أردت لها أن تكون، لكنها معي ولَم أفقدها
أُكمِلُ الثلاثين وأنا أعرف ماذا يعني الحُب، أعرفُ من هم أصدقائي، وأعرفُ من أنا، وأنّ ما كتبتهُ ليس شرطًا أن ينطبق على آخرين
ليس شرطًا أن يكون مناسبًا لهم، وربما لا يكون مناسبًا لي أنا أيضًا أحيانًا، لكنّي أردتُ أن أُخرِج بعض العينات من حقيبتي فقط لأتأكّد أنها هنا معي.
اليوم أُكمِلُ عامي الثلاثين..
كرّرتها مرارًا لتزول عنها الغرابة والدهشة والمفاجأة، لتهدأ وتستقر وتتجسّد حقيقةً واقعةً أمامي.
اتممت عامى الثلاثون ولكن ملامحى ما زالت تسبقنى الا الخمسنيات من عمرى